الأسواق الشعبية بالباحة

الصورة لمواطن يعرض بضاعته من صنع يده

د.عبدالله غريب

الأسواق الشعبية بالباحة : من مقالاتي السابقة للاطلاع والاستفادة للجميع .
__________________________________
على مساحة تقدر بـ 36000 كيلو متر مربع تتكئ منطقة الباحة الواقعة جنوب غرب المملكة العربية السعودية بين تضاريس جبلية ومنحدرات صخرية تفصل بين السراة وتهامة إلى جانب البادية الممتدة شرقا، والمنطقة عموما تسكنها في الأصل قبائل غامد وزهران ومنهما تتشكل التجمعات السكانية بين مدن وقرى وهجر. وبحكم اتساع رقعتها الجغرافية وتباعد القرى قبل إن تطولها عطاءات الدولة السعودية العصرية كان لا بد من أيجاد ما قد يعتبره الأجداد والآباء مواقع مختارة تتوسط القبائل بهدف اللقاء والتسوق وعرض المبيعات التي كانت تنحصر عادة في منتجات الزراعة وبيع الماشية والمصنوعات اليدوية التي اشتهرت بها المنطقة قديما قبل أن تشهد هذا التقارب الذي أحدثته النهضة الحالية بفضل الطرق الحديثة والانفتاح الاقتصادي. ولعل الحاجة كانت تدعو لوجود أسواق يرتادها المواطنون لكثير من الأغراض فشكلت الأسواق ميزة للمنطقة بعضها لا يزال يحافظ على نشاطه التجاري رغم ما طرأ عليه من تطورات فيما اندثر بعضها بحكم التحول الحضاري الذي شهدته مواقع هذه الأسواق، وهذه الأسواق الشعبية قد ينفرد كل منها بميزة من حيث اليوم الذي يرتاده الناس أو نوع البضائع المعروضة أو الوقت الذي يقام فيه والمدة التي يقضيها مرتادوه، ودون شك فإن ترامي أطراف المنطقة وصعوبة التنقل الذي كان يعتمد قديما على الدواب او سيرا على الأقدام، جعلا انعقاد هذه الأسواق على مدار الأسبوع بل اثر تباعد القرى في إقامة أكثر من سوق في يوم واحد في أكثر من موقع سواء في السراة أو تهامة أو البادية اوفي قطاع واحد اوفي القطاعات الثلاثة. كان يقام سوق في تهامة وآخر في السراة في يوم الثلاثاء فكل منها يقدم خدماته للنطاق القروي الذي حوله وبعض هذه الأسواق مرتبط ببعض العادات والتقاليد القديمة كمناسبات الزواج وحركة العمران والنشاط الزراعي والثروة الحيوانية ومنتجاتها، وقد تستغل لأغراض أخرى إعلامية إخبارية أو مواسم دينية للتثقيف والدعوة وكانت تستغل أيضا للإصلاح بين الناس بواسطة شيوخ القبائل لحل النزاعات القبلية والخصومات بين الناس والبحث عن المفقود من الماشية والتقاضي في الديون والتعارف بين الناس وعقد الصداقة بين الأعيان إلى جانب النشاط التجاري الذي يعتبر الأساس في إقامة هذه الأسواق الشعبية، وكان لهذه الأسواق عقود يتفق عليها جميع من ينتفع به، فلا يجوز النيل من احد في السوق ذلك اليوم الذي يقام فيه وإذا ما حدث خرق لهذه الاتفاقيات فان الموقعين على تلك الوثيقة ينزلون العقوبة التي نص عليها الاتفاق وقد تحرم المعتدي من ارتياده إلا بعد الاعتذار المادي والمعنوي.
كانت تلك الأسواق ذات تقسيم فريد من حيث المواقع المتخصصة لبيع السلع والمعروضات فتجد ما يسمى بـ «المجلية» وهو مكان لبيع الماشية مثل الأغنام والأبقار والجمال والحمير قبل السيارات، وبالقرب منها موقع لبيع الطيور كالحمام والدجاج سواء للاقتناء أو الغذاء، وفي السوق موقع لبيع الحبوب والمنتجات الزراعية المحلية ومنها البن الذي تشتهر به المنطقة والذي يزرع في جبال شدا والإصدار الواقعة بين السراة وتهامة وكذا الحنطة والشعير والذرة والعدس والحبش والدخن والسيال والدقسة وغيرها، ولكل منها بيئة زراعية تبعا للمناخ الذي يتفق ونموها وإنتاجها ومواسمه على مدار العام. ويتخصص جزء من السوق في بيع اللحوم ويطلق عليه اسم «المجزرة» كما يضم السوق مواقع متخصصة لبيع النباتات العطرية التي تشتهر بها الإصدار وتهامة ومنها الريحان والكادي والشيح والبرك ومواقع لبيع المفروشات المصنوعة من الخوص، وما يسمى الطفي وبيع الحبال والبيدي الذي يعتبر من أشهر الصناعات التي تشارك فيها المرأة بكل تميز وبالذات في قرى بيده وجبال بني ظبيان وأجزاء أخرى متفرقة في السراة والبادية ومواقع تكاثر الأغنام على وجه الخصوص حيث الصوف الوفير.

وفي السوق موقع لبيع الأواني المنزلية ومعظمها كان من الفخار المحلي المنشأ والصنع، وموقع جانبي للدواب التي يستخدمها مرتادو السوق في نقل بضائعهم، ومن المواقع الهامة تلك المختصة بالاصلاح بين الناس.

وتتميز هذه الاسواق بالتقسيم حسب ايام الاسبوع ووفقا للبضائع التي تباع في اليوم المحدد من الاسبوع، فلا يمر يوم إلا وتجد سوقا يقام أو أكثر ومنها سوق السبت في السراة، في بالجرشي والمندق والصغرة والرومي والفرعة بتهامة. وفي يوم الأحد يقام أشهر الأسواق من حيث توسطه المنطقة وكثرة المتسوقين وتنوع المبيعات ويقام في قرية رغدان القريبة من الباحة ولا تزال بعض أطلاله شاهدة للعيان كذلك سوق بني كبير وسوق الحجرة بتهامة، وفي يوم الاثنين سوق بني سالم بالقرن التابعة لبالجرشي وسوق آخر يقام في دوس بني علي بزهران، وفي يوم الثلاثاء يقام السوق في قلوه بتهامة وسوق ثلاثاء الحميد ببالجرشي وسوق الظفير وسوق المخواة، أما يوم الأربعاء فيقام السوق في الطاولة وفي بالخزمر وكلاهما في زهران ثم يأتي يوم الخميس حيث يقام السوق في الباحة والذي لايقل أهمية عن سوق رغدان الذي يقام الأحد، وميزة السوقين هذين توسطهما المنطقة كذلك يقام سوق الخميس في برحرح والشعراء في تهامة فيما يروى إن سوق المخواة كان يقام في هذا اليوم، ثم يأتي يوم الجمعة فيقام السوق في العقيق ومعشوقة وكلاهما في البادية ويرجع ذلك إلى أن سكان البادية يتجمعون في الماضي لأداء صلاة الجمعة جماعة لما في ذلك من التواصل المحمود فينتهزون الفرصة لبيع الغنم والإبل ومنتجاتها.

وكان أهل البادية يتسوقون في جميع هذه الأسواق لتخصصهم في بعض العروض وبالذات الإبل والغنم وأنواع من التمر. وفي أسواق السراة وتهامة مواقع متخصصة في بيع السمن والعسل ومواقع لبيع التمور، ولندرة العسل وجودته فقد يبيعونه بأقل الأوزان وتحديدا بفنجان القهوة وكان لهذه الأسواق شأنها في سد احتياج الناس. وأخيرا تحولت القرى إلى مدن وأصبحت هذه الأسواق من أحاديث الرعيل الأول للجيل الجديد الذي يستمتع به استلهاما للماضي الذي بنى لنا الحاضر الأجمل الذي نعيشه والمستقبل الزاهر الذي نتطلع إليه ومع ذلك فلا تزال بعض هذه الأسواق تحتفظ باسمها ورسمها مع شيء من التطوير الذي لم يسلب منها رموزها وأيامها ومرتاديها من كبار السن وحتى الشباب.

مقال رائع بروعة الماضي الجميل واصالته العريقه
سلمت يداك اخي الفاضل صقر الجنوب على الاختيارالمميز والمفيد للجميع