الأموات يتكلمون
د. هيا إبراهيم الجوهر
ظلت أسرار الكثير من الجرائم غامضة على مر العصور ودفنت مع أصحابها، ونجا مرتكبوها من العقوبة، ولكن هذه الحوادث أرَّقت بال الكثير من المحققين والمسؤولين عن الأمن، وسعوا إلى الكشف عن هذه الجرائم وانتزاع اعترافات الجناة بشتى السبل حتى لو اضطرتهم الظروف إلى استخدام وسائل محرمة دوليا أو لا تأخذ بها المحاكم، مثل استخدام مصل الحقيقة Truth serum الذي ذاع صيته في فترة من الزمن، وحيكت حوله العديد من القصص والروايات، وأنه استطاع إطلاق لسان أعتى المجرمين والإرهابيين، واعترفوا بالجرائم التي ارتكبوها، وهذا المصل عبارة عن بعض المواد الكيميائية من أشهرها (سكوبولامين وبنتثول الصوديوم)، التي تؤثر في خلايا المخ وتعطل بعض وظائفه فيبدأ في الحديث عن أفعاله التي ارتكبها، ولكنه قد يخلط بين الواقع أو ما قام به فعلا وما يخزنه في عقله الباطن، وبعض المتهمين يستطيعون السيطرة على أنفسهم، ويختلقون الأكاذيب لذلك تبدو هذه الطريقة غير مجدية لعدم الوثوق بمصداقيتها ورفض معظم أطباء علم النفس الاعتراف بها.
ومع تطور علم التشريح والطب الشرعي اتجهت الأنظار إلى المجني عليه أكثر من الجاني للحصول على الحقيقة، فحديث الأموات دائما أبلغ من حديث الأحياء، لأن كلامهم محدد ومختصر، وغالبا ما تجدهم في ساحة الجريمة.
وأول جريمة تكلم فيها ميت في التاريخ هي التي حدثت على أرض سيناء في عهد سيدنا موسى ـــ عليه السلام ـــ، عندما قُتل التاجر اليهودي على يد ابن أخيه ووارثه الوحيد (كما وردت في بعض الروايات) وتخلص من جثته، فاختلف القوم فيمن قتله، فذهبوا إلى نبي الله يسألونه أن يدعو ربه ليبين لهم من قتل الرجل، وأراد الله أن يكشف لهم الحقيقة بمعجزة مادية فأمرهم بذبح البقرة وضربه بها فتكلم وأخبرهم عمن قتله، ولكن زمن المعجزات انتهى فأصبح الموتى يتكلمون بعدة طرق.
في عام 1984م وجدت (جوانا) زوجة الرقيب (رونالد جيليت) متوفاة، وأفاد زوجها بأنها كانت تعاني الأرق، وتناولت بعض الأدوية ولكنها لم تستطع النوم، لذلك قررت أن تقضي وقتها في غسل الثياب، كما أكد الأطباء أنها كانت تعاني أمراضا في القلب والكبد، لذلك اعتبرت وفاتها طبيعية وتم دفنها، وكادت القصة تنتهي عند هذا الحد لولا أن زوجها سافر بعد دفنها وتزوج بعد أيام ما أثار الشكوك، لذلك تمت إعادة فتح القضية، لاحظوا أن الأدوية التي تناولتها ليست كافية لتتسبب في وفاتها، ولكن وجد من ضمن الأدلة كيس بلاستيك أخذ من غرفة الغسيل عليه آثار بصمة أذن، وعند تفحصه تبين لهم أكثر من بصمة، لعينين وأنف وفم وعند مقارنتها بصورة المتوفاة وجدت متطابقة مع قسمات وجهها مما دل على قتلها خنقا، وهكذا دلت على قاتلها (زوجها) بعد وفاتها، وهذه أول قضية في التاريخ تتم فيها إدانة مجرم عن طريق بصمة الوجه وحكم عليه بالسجن المؤبد.
وكما قلنا حديث الأموات حديث من نوع خاص، دل عليه قوله تعالى: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون"، فكل جزء فيك قد يكون شاهدا لك أو عليك، فهناك الجلد وبصمة البنان ورائحة الجسم وقزحية العين وأثر العض وبصمة الشعر والحامض النووي وهندسة اليد التي يتم فيها قياس حجم الكف وطول الأصابع وتوزيع الأوردة على ظاهر الكف، ومع تطور علم التشريح أمكن الكشف حتى عن الجرائم التي حدثت منذ مئات السنين، وأخذ صوت الموتى يرتفع ليسمع الأحياء ويكشف الجناة.