عرض مشاركة واحدة
قديم 09/02/2013, 12:54 AM   #18
المؤسس والمشـــرف العــــام


الصورة الرمزية صقر الجنوب
صقر الجنوب ٌهé÷àٌ يà ôîًَىه

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  Aug 2004
 أخر زيارة : 30/07/2025 (06:02 AM)
 المشاركات : 64,173 [ + ]
 التقييم :  16605
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
لوني المفضل : Maroon
افتراضي



عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا = فلما دهتني لم تزدني بها علما

ما بمعنى المصدر: أي قبل صنعها بنا. وقيل: أنها موصولة بمعنى " الذي ".
ومعرفته بالليالي كانت قد استحكمت في هذا التوقيت بالرغم من كونه ما زال في سن الشباب ، إلا أن التجريب قد قذف به إلى ما بعد الكهولة ، فقد ذاق مرارة السجن ، وتقلبت عليه فيه صروف الدهر ، وما ذاك إلا أنه استعلن ببعض ما في نفسه مما قد ثبت عنده أنه حق له ، وذلك كما يذكره العلامة محمود شاكر هو انتسابه للعلويين ، والذي سجن من أجله ،بل وقبل ذلك (( قبل ما صنعت بنا )) به وبها وهما بعد بالكوفة من هضم حقه وحقها في شرف النسبة التي أبى عليه العلويون أن يصرح بها فتسببوا في سجنه ، فلما خرج وأقام باللاذقية أياما معدودات أتاه كتاب جدته فتوجه إليها وكان ما كان من أمرهما ، فهو هنا يبث شكواه من الأيام ولكن في صورة تظهر قوته النفسية ، لأن له أعداء يشمتون به ،
فجاءت تلك الداهية التي فرقت بينه وبينها فلم تكسبه علما بسوء صنيع الأيام ، بل قد عرف كيف أن الأمور تجري على غير ما يحب قبل وقوعها .
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ = فماتت سروراً بي، فمت بها غما
حرامٌ على قلبي السرور فإنني = أعد الذي ماتت به بعدها سما


يصور هنا حال الجدة الشفيقة عليه ، المحبة له ، فإن كتابها الذي جاءه يسعى بعد خروجه من السجن لم يكن إلا عن تتبع لأحواله وما آلت إليه ، فكان يأسها وحزنها دليلا على إلمامها بحجم المصيبة الواقع فيها ، لأجل ذلك تسللت الأحزان إلى فؤادها حتى تملكها اليأس ، فلما جاءها كتابه على تلك الحال ، لم تتحمل شدة الفرحة ، التي كانت عاقبتها الموت ، لكنه الموت سرورا به ، الذي قتله هو غما بها ، و روعة هنا المقابلة تشد وتر الحزن الطَرِب في قلب السامع ،
ونستشعر من بين ثنايا الكلمات لمحة ندمٍ من أبي الطيب على ما كان من شأن الكتاب ، يكاد يتمنى أنه ذهب لملاقاتها دون أن يكتب لها ، وهذا ما أورثه ذلك الغم ، فالغم يكون عاقبة فعل من جناية الشخص على نفسه ويدل على ذلك قول الله تعالى " فأثابكم غما بغم " ، فقد كان ما أصابهم نتيجة فعلهم هم بمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي ذات الحالة الشعورية تعبيره بقوله : أتاها كتابي ،ونسبة الفعل للكتاب ، مع إلصاق الضمير به الذي يشعرُ برغبةٍ في التنصل من الفعل الذي أعقب موتها ، مع نسبة الفعل به كالتصاق الضمير الذي يشير إليه بالكتاب .
وتحريمه السرور على نفسه لأجل أنها ماتت على أثره ، فيه من معاني المغالاة في الحب والبغض ما فيه ، الحب لها إلى حد تحريم الفرح ، والبغض له لأنه فرق بينهما ، لكنه لأنه يعرف أحوال الدنيا ، ويعلم أن الإنسان من طبيعته النسيان ، فإنه قد تتسرب إلى قلبه رغما عنه لحظة من ذلك السرور ، فاختار أن يعبر عنه بالسم ، لأنه لا أحد يتناوله مختارا ، إنما إن حدث فإنه يتناول السم مضطرا أشد ما يكون الاضطرار ، مع علمه بأن العاقبة هي موته بهذا السم .
تعجب من خطي ولفظي كأنها = ترى بحروف السطر أغربةً عصما
وتلثمه حتى أصار مداده = محاجر عينيها وأنيابها سحما


العُصم : جمع أعصم، وهو الذي في أحد جناحيه ريشة بيضاء. وقيل: هو الذي إحدى رجليه بيضاء، وذلك لا يكاد يوجد.
السحم: السود. والمحاجر: ما حول العينين .
يقول: إنها تعجبت من كتابي ! وكانت تنظر إليه وتكرر النظر اشتياقاً إلي واستعجاباً؛ لأن عندها أني قدمت، فكأنها ترى غراباً أعصم؛ لفرط التعجب.
فلم تزل تقبله وتمسح به على وجهها وعينيها وهي تبكي، حتى اسودت أنيابها ومحاجرها.
يرسم المتنبي بريشته الفخمة هذه الصورة البديعة ، مصوراً تعجب الجدة مما رأته عيناها ، حتى كأنها ترى ما لا يكاد يوجد منفردا " الغراب الأعصم " ، فأورده هو بصورة الجمع " أغربة عصما " وهو أشد في الندرة ، وأبلغ في وصف العجب من كتابه .
ثم إن العجب لم يكن فقط أن وردها كتاب من حبيبها فلا تصدق أنها تطالع خطه ، ولكنها تتعجب من اللفظ وسحره والبيان وحلاوته ، فتخيل معي أبا الطيب يراسل جدته التي لم يعرف أبا ولا أما سواها ، وتخيل اشتياقه لها بعد خروجه من محنته ، وتكبده العناء بالعودة لأقرب محلةٍ ليستطيع رؤيتها ، تخيل معي ماذا سيكتب لها ؟! ، بأي بيانٍ وبأي جمالٍ في القول ؟! وبأي عاطفة وبأي اشتياق ؟!
وتأمل معي الصورة المحمومة التي صور بها تقبيلها لكتابه ، حتى سوّدت محاجرها وأنيابها ، وأنى للقبلة أن تصل ثم إلا إذا كانت قبلة من تخللت المحبة لحمه ودمه ؟ أي محبة كانت تلك التي تجمع هذا الرجل بهذه الأم ؟! هذه هي المعاني الرائعة التي ينثرها المتنبي بين طيات نظمه الدري .

رقا دمعُها الجاري وجفت جُفُونُها = وفارقَ حُبي قلبها بعد ما أدمى

ولم يُسلها إلا المنايا، وإنما = أشد من السقم الذي أذهب السُقما

رقا: رقأ مهموزا أي انقطع.
يقول أن دمعها الذي جرى لفراقه ، قد جف ، وحبي الذي ملأ قلبها قد فارق ذلك القلب ،
وههنا صورة رائعة لمقابلة عجيبة ، فإن ذلك الدمع الذي توقف انسكابه من عيونها ، قد صار دما ينزف من قلبها .
وقد كانت تطلب الصبر على السقم برؤيتي ، أو بكتاب مني ، فلم يذهب سقمها إلا ما هو أشد من السقم وهو الموت
طلبت لها حظاً، ففاتت وفاتني = وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما

وما ذاك الحظ الذي طلبه لها أولا ، إلا تحقيق هذا الشرف الرفيع الذي كانت هي سبيل وقوفه عليه ، فخرج يضرب في البلاد ليجد من يناصره على ذلك ، فماتت قبل أن يتحقق له ، وعزم على ألا يطالب به مرة أخرى " وفاتني " ، لأن من طلبه من أجلها قد فاتت ، ثم يعود إلى لهجة الندم على ما فات من عمره بعيدا عنها بقوله: " وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما "فقد كان يكفيها من حظ الدنيا قربه منها ، وقد رضيت بذلك الحظ وتلك القسمة ، لكنه ما رضي بها ويخرج يطلب ما هو أعلى منها .

فأصبحت أستسقيي الغمام لقبرها = وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما

وكنت قبيل الموت أستعظم النوى = فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى

في هذين البيتين حالة من التغير الذي اعترى نفس الشاعر نتيجة تلك الفاجعة الأليمة ، فبعد أن كان يجمع الرأي للحرب والقتال ، صار يجمع الأكف للدعاء مخلفا القتال وراءه ، وبعد أن كان يستصغر الموت ويستهين به ، ويعتبر أن فراقه إياها أشد منه ، فأصبح يرى أن أن الفرق لا شئ مقارنة بموتها الذي هو عظيم على نفسه
وما هذا إلا لشدة تأثير موتها فيه ، فقد كان يجمع الدنيا من حوله ليركب ظهر مجد هي التي غرست في قلبه أسبابه ، ويرى كل مصيبة دونه تهون ، أما الآن فقد انتهت تلك الآمال العظمى بموتها الأليم .
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى = فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟

إن الوقوف على معنى أبي الطيب وعلى لفظه قبل معناه وقوف إجلال وتعظيم لروعة النظم ودقة المعنى .
فهو يخاطبها خطاب اليائس المحزون ، ضارب لها مثلا أنه لو أخذ ثأرها من أعدائها ، فكيف له السبيل لأخذ الثأر من الحمى التي ماتت بها ، فهذا ما لا سبيل إليه ، وما لا يتخيل ، وما لا يقوله إلا المحب الشفيق .

وما انسدت الدنيا علي لضيقها = ولكن طرفاً لا أراك به أعمى

هكذا تكون المحبة ويكون الحب بين المحبين ، فإنه لا يري الدنيا أغلقت أمام ناظره سبلها لضيق حل بها ، لكن لأن عيونه التي لا تراها هي عيون فقدت النور التي تبصر به
فوا أسفاً ألا أكب مقبلاً = لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما

لهجة أسف تفتك بالروح وتدمي الفؤاد ، لحقيقة أنه لم يتح له لقاءها ، لينعم بتقبيل رأسها وصدرها ، اللذان ملئا حزما وعقلا وبصير بتدبير الأمور ، وهو اعتراف بفضلها ، لأن المتنبي اشتهر بتعقله وحزمه طيلة حياته ، وإنما اكتسب ذلك مما علمته إياه تلك الجدة ، فهو أبصر الناس بصفاتها ، وأعلم الناس بأحوالها
وألا ألاقي روحك الطيب الذي = كأن ذكي المسك كان له جسما

إما أن يلاقي تلك الروح حيا فقد فاته ذلك ، وإما أن يلاقيها ميتا ، فقد يطول عليه ذلك أيضا ، والتشبيه هنا غاية في الروعة إذ يشبه جسدها الذي احتوى تلك الروح ، بالمسك الذكي ، فإن كان القالب الذي يحوي تلك الروح من المسك الذكي ، فما شان تلك الروح ، لا شك أنها أسمى وأعلى
....





 
 توقيع : صقر الجنوب

مواضيع : صقر الجنوب



رد مع اقتباس