عرض مشاركة واحدة
قديم 26/12/2006, 08:52 PM   #17
رئيس مجلس الإدارة والمدير العام وداعم مادي لمسابقات رمضان


الصورة الرمزية مشهور
مشهور âيه ôîًَىà

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 245
 تاريخ التسجيل :  Feb 2005
 أخر زيارة : 28/02/2014 (09:03 AM)
 المشاركات : 6,236 [ + ]
 التقييم :  10000
لوني المفضل : Brown
افتراضي حكايته مع الورق **سمير عطالله



حكايته مع الورق

أجمل ما يضعه الكتَّاب الذين يفوزون بجائزة نوبل هو الخطاب الذي يتقبلون به الجائزة في حفل التسلم. لا أدري كم يمضون من الوقت في وضعه. ولا كم مرة يعيدون كتابة ما كتبوا وما صححوا وكم يختصرون وكم يضيفون ثم كم يختصرون الاضافة أو الاختصار. أحيانا يكون الخطاب مطولا، أحيانا يكون مقتضبا مثل خطاب نجيب محفوظ، لكنه يرتكز غالبا على عنصرين: شخصي، وفيه شرح لأسباب الكتابة في المقام الأول، وعام، وفيه موقف من سلام العالم أو حضاراته وأحواله في صورة إجمالية.

خطاب الروائي التركي أورهان باموك كان مطولا الى حد ما. روى فيه حكايته مع الكتابة. وهي حكاية تشبه الى حد بعيد قصة نجيب محفوظ مع الرواية: لقد أثر فيه اثنان: والده، واسطنبول. كل شيء وكل شخص وكل متخيل يجيء من اسطنبول من ضفاف البوسفور، والمدينة التي كانت ذات يوم الاستانة، مركز (الباب العالي) أيام الامبراطورية التي دامت خمسة قرون، وهزمت بيزنطيا، وحلت مكانها. وأذكر في كتابه المعنون «اسطنبول»، كيف يروي باموك حكاية الطبقة البورجوازية في المدينة التي أخذت تخسر موقعها في العواصم الامبراطورية وما عادت أبوابها وقناطرها عالية.

الكتابة بالنسبة الى باموك ليست مجرد عمل آخر إنها دائما من صنع رجلين، واحد خارجي وآخر داخلي. وهي تحدث عندما يدخل الرجل الخارجي الى عزلته الداخلية، الى نفسه، ويروح يستقرئها وحيدا ومعزولا: «انه الكاتب، الشخص الذي يغلق الباب على نفسه، ويجلس الى طاولة ويتجه الى الداخل. وفيما هو بين الظلال المتحركة حوله، يبني عالما جديدا بالكلمات»، وهذا الكائن، رجلا أو امرأة، بعدما يدخل الى نفسه، يمكن ان يعيش بأي وسيلة: الطابعة أو الكومبيوتر أو القلم، كما يمكن ان يكتب اي شيء، القصيدة أو الرواية أو المقال.

ويبدو باموك رجلا «حديثا» في كل شيء، خصوصا في مظهره، لكنه في الخلوة مع الذات، لا يزال يستخدم الحبر والورق. «عندما أجلس خلف طاولتي لأيام أو شهور أو سنين، اضيف الكلمات الى الصفحات الخالية، اشعر وكأنني انقل الى الوجود ذلك الشخص الآخر الذي في داخلي، بنفس الطريقة التي يبني فيها المرء جسرا أو قبة، حجرا حجرا»، ان سر الكاتب ـ والكتابة ـ عند باموك ليس الاستلهام، ولكن الثبات والاستمرار. وقاعدته في ذلك مثل شعبي تركي «حفر بئر بإبرة» ويرى ان الكاتب يشبه في عمله الدؤوب حكاية البطل الشعبي فرحات في الاساطير التركية، الذي يحفر الجبال من أجل حبيبته.

لكن العمل الكتابي يظل أكثر صعوبة. ففي حين يثق رسام المنمنمات بما يفعل، يظل الكاتب يشكك في ما حقق، غير واثق بأن هذا ما أراد حقا بلوغه، ولذلك يرى باموك ان الشرط الأهم في فعل الكتابة، ليس الكّد والبحث: «علينا أولا ان نشعر بأن علينا الهرب من الجماعات والاجتماعات واشياء الحياة العادية، وان نغلق الغرفة على أنفسنا». فأفضل محاوري الكاتب عنده، هما الذات والكتب: «فعندما نغلق الباب على أنفسنا نكتشف اننا لسنا بمفردنا بل برفقة الكلمات التي تركها اولئك الذين سبقونا، الروايات التي تركها الآخرون، الكتب التي وضعها الآخرون، أي ذلك الشيء الذي نسميه التراث». وثمة قاعدة أزلية في عالم الادب: على الكاتب ان يعرف كيف يروي قصته وكأنه يروي حكاية سواه، وكيف يروي حكايته وكأنه يروي حكاية غيره.


 
 توقيع : مشهور



رد مع اقتباس