عرض مشاركة واحدة
قديم 02/11/2009, 12:04 PM   #4
المؤسس والمشـــرف العــــام


صقر الجنوب ٌهé÷àٌ يà ôîًَىه

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  Aug 2004
 أخر زيارة : يوم أمس (01:45 AM)
 المشاركات : 64,173 [ + ]
 التقييم :  16605
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
لوني المفضل : Maroon
افتراضي



نماذج تحمل صور العقوق :_

لو أنك كنت مسؤولاً في إحدى المؤسسات الحكومية أو غير الحكومية ، فرأيت مَن يخرج من مقر العمل دون أن يستأذنك ، مرة وثانية وعاشرة ، كيف سيكون تصرفك تجاهه ؟ ألا تغضب وتتخذ القرارات الرادعة ، التي تضمن رد اعتبارك بصفتك المسؤول الأول عنهم ..
لكنني هنا يعنني بالدرجة الأولى شعورك النفسي من جراء هذه التصرفات التي لا تليق .. فما هو شعورك يومئذ ؟. خذ هذه الصور الواقعية .. ثم .. أنت الحكم بعدها ..
الصورة الأولى :_أبٌ يتحدث في مجلس بحرقة ممزوجة بأدب جمًّ :
أن لست أفهم تصرفات بعض هؤلاء الشباب _ هداهم الله _ الذين يقولون نحن ملتزمون بالدين .. بذهب أحدهم ويأتي .. دون أن يكلّف نفسه عناء الاتصال بأبيه أو أمه ليخبرهما عن ذهابه أو إيابه .. هذا ابني _ هداه الله _ يذهب لأداء العمرة ويمكث العشر الأواخر من رمضان كلها في المسجد الحرام وأنا آخر من يعلم ، ولم أعلم به إلاَّ من أحد الجيران ! أين الالتزام بالله عليكم .. والذي أفهمه أن الجهاد لا يجوز الذهاب إليه إلاَّ بعد استئذان الوالدين .. فما الفرق بينه وبين الحج والعمرة .. ما لفرق بينهما .. هذا سفر وهذا سفر .. هذه عبادة وهذه عبادة ! .. لماذا لم يخبرني بمذهابه فلن أصده عن عبادةٍ ؟ هداه الله .. الله يهديهم .. ( صورة طبق الأصل ) .
الصورة الثانية :_ معاناة أمٍ :
أمُّ تخاطب أبناءها :_ يا أبنائي الخمسة .. أني أحمد الله تعالى أن رزقنيكم في حين حرم غيري من هذه النعمة .. يا أبنائي .. ربيتكم وتعبت عليكم .. حتى بلغتم مبلغ الرجال .. لكنني ألحـظ منكم بعض التصرفات التي لا أعرف كيف أفسرها ؟! .. فأنت يـا ( فلان ) .. تأخذ زوجتك وأولادك وتسافرون إلى جده لقضاء إجازة الربيع .. ولم أعلم بكم إلاَّ من أحد إخوتك .. ولم تستشرني أو تستأذنّي أو تعرض علىَّ أن أذهب معكم .. ولو عرضت عليَّ لمَا ذهبت معكم لكن هذا يريحني ..أم أنـك خشيت ألاَّ أدخـل عليـكم السرور في سفركم لأنني أصبحت كبيرة في السن ، وكبيرات السن لا يحتجن إلى ( التمشية ) والنزهة ؟! .
0 وأنت يا ( فلان ) .. تسافر مع إخوة زوجتك إلى المنطقة الشرقية .. دون أن أعلم ..
0 ولا أذكر أن أحدكم مدَّ إليَّ يده بمبلغٍ من المال ولو يسيراً .. أم أنكم تظنون أننا _ نحن العجائز _ لا نحتاج إلى المال .. وفي الحقيقة أننا نحتاج إلى المال .. لأتصدق منه ، وأقضي بعض الحقوق عليَّ التي لا تعلمونها .. وأحتاج إلى المال لأفرح به الصَّغار .. وأدخل عليهم السرور .. ( طبق الأصل ) ..

* * *
الصورة الثالثة :
يا لفرحة (أم نديم) وهي ترى عروس ابـنـهـــا الجميلة (سها) تزف له ، إنها فرحة طالما انتظرتها لتجبر قلبها الكسير ، ولتأسو جراح نفـسـها المكلومة ، ويا لسرورها وهنائها! ها هو ابنها تكتمل رجولته إذ يعمر بيت والده (الـمرحوم- إن شاء الله - خالد) فتسعد بذلك كما سعدت يوم تخرج من كلية الهندسة وعين في إحدى الشركات الكبرى ، فتركت مهنة الخياطة التي ما كانت لتعمل بها لولا الحاجة ، كانت تمضي سـحـابــة يومها في استقبال زبائنها من الراغبات في الأناقة ، وتسهر جل ليلها خلف ماكينة الـخـيـاطـــة لتـؤمـن لعيالها الحياة الهانئة الكريمة بعيداً عن الحاجة ، تتطلع إلى أملها الكبير (نديم) ليحمل عـنـهـا أعـبــاء أضـحـت تـنـوء بحملها ، وهي على أبواب شيخوخة مبكرة جلبها كدح النهار وهمِّ الليالي لإعالة أيتام ، وتأمين الحياة الكريمة لهم بعيداً عن العوز والفاقة.
لكن صاحـبـاتها ممن يـعـرفن (سـها) المعرفة الحقة كان يحدوهن تفاؤل حذر إلى تحفظ في الفرح والسرور ، وما منعهن الإقدام عـلـى نصيحتها إلا الخوف من أن يتهمن بالغيرة ذلك أن جمال (سها) البارع قد ملك على (أم نديم) قـلـبـها بل وعقلها أيضاً ، ولم تدر أن هذا الجمال لم يورث (سها) إلا غطرسة وكبراً بل وتسلطاً في الرأي يلمسه كل من يعاشرها..
ومنذ أن اقترنت بـ (الأستاذ نديم) أضافت إلى سلطانها وجبروتها عش الزوجية الجديد. فأضحت رغباتها أوامر عند أفراد الأسرة جميعاً وأصبح زوجـها لا يتوانى عن تنفيذ ما تحب أياً كان ذلك… وإن حدث التواني أو التأجيل .. فلا اعتذار يقبل ، بل ينطلق السخط من فمها فيحول المنزل إلى جحيم لا يطاق.
وكان الجميع يطلب لنفسه السلامة برضاها ، وعمل ما يروق لها ، فهل ترضى؟! لا زلت أذكر يوم كانت (سها) تشكو حب ابنتها (سلوى) لجدتها وعماتها وبرها لهم وتعلقها بهم.
وعندما قلت لها سائلة ومقربة بين وجهات النظر :
- وماذا في برها بجدتها وقربها من عماتها؟! أوليـس ذلك ممـا يـفـــرح الأم؟ إن من يبر جدته ويحسن إلى عمته قادر أن يكون أكثر إحساناً إلى أمه... ولكن هيـهـــات أن تقـتـنـع (سها) أو ترضى بهذه الأقوال..
لقد حجب هواها الجامح جمال الحقيقة ، فما وجدت منه إلا النفور ، لقد امتقع وجهها وهي تقول :
- لا ليس كل الناس سواء ، هؤلاء كالثعابين التي تقذف بالسم ، إنهم أعداء بثياب الأهل والأقارب.
ويجمح بها الانفعال فتتابع الكلمات تتدفق من فمها:
- يكفي المرارة التي جرعوني إياها عن طريق ابنهم ووساوسهم له ، أيريدون أن يذيقوني الويل من أولادي أيضاً ؟!
وأرادت أن تختصر الحديث فهبت واقفة وهي تتوعد بأمر لا ترعوي عن إظهاره .
- والله لن أدع لهم مكاناً في بيتي… فإما أنا أو هم ، وليعمل ابنهم ما يشاء ، فمنزل أهلي يسعني...
ويأتي الزوج.. ويحتدم النقاش ، ويخونه بيانه ومنطقه ، ولم تسعفه أية حجة حتى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم"[1].
لامس حسها الغليظ فما وجد منها غير التبلد واللامبالاة والإصرار على موقفها المشين. فما كـــان مــن الزوج الذي اعتاد الانصياع لزوجته المتسلطة إلا أن رضخ لرغبتها ، ورأى أن والدته برحابة صدرها ، أكثر تقديراً للأمور من زوجته.
فقرر مفاتحة الأم الروؤم ، وقال لها بصوت كسير حزين :
- عزيز علي أن أقول لك يا خير أم،أنني ابنك البار بك، والذي يفديك بالغالي والرخيص ... ويسود صمت ثقيل ، فالموقف الجلل يمنع الكلمات المتعثرة من أن تظهر ، فتغوص في أعماق حنجرته.
ونظýرات الأم الحائرة ترمقه في دهشة وتساؤل.
ثم يكمل وقد غلبت عليه الأثرة قائلاً:
- إن (سها) قد أتعبتني ، وتجد أن لا حق لأحد في زوجها وبيتها ، فماذا أعمل؟! وبين دهشة الأم وحسرتها ، سالت دمعة أسـيـفـــة من عينيها ، وفي بساطة تعسة قالت بتسليم حزين :
- اعمل ما تريد ، أما أنا وأخواتك فنفوض أمرنا إلى الله ..
ثم خرجت وبناتها من البيت... وفي نفسها تعتلج المشاعر الأليمة ، والضيق المكتوم و(سها) تشيعها بابتسامة تحكي قسوتها وفظاعتها ، وتخلو من كل معاني الإنسانية.
.. وعاشت الأم حياة بائسة قد لا تصل إلى حد الكفاف ... وهي التي لا تـفـتــأ تسمع عن حفلات ابنها وولائمه ، ونفسها تتوق إلى لقمة طعام من كده وسعيه ، فلا تلقى إلا صدقات بعض المحسنين الذي يرجون ثواب الله في إعطاء الصدقة للمتعففين من ذوي الحاجات ، أمثالها!
فما أشق ذلك على النفس التي ما اعتادت الاستخذاء ، لكنه السن والحاجة!!
وأما (سها) فهل وجدت السعادة التي كانت تنشدها؟!
أم هل أصبحت التطلعات المبتذلة هي مقياس السعادة؟!
ها هو البيت قد فرغ لها ، ففرحت وفرح أهلها ، إذ خلا المنزل فما ينغصهم أحد ، كما سول لهم عقلهم القاصر ، وما دروا أن البر وصلة الرحم توسع الرزق وتسعد العيش !!
ويتحامل (نديم) على نفسه ويرحب بهم فيزيد ذلك من غبطتهم.. ثم لا يلبث أن ينـقـلـب الترحيب إلى تجهم وكدر ، ويبلغ الأمر حدة عندما أعلن موقفه بوضوح ، وقـــد شعر أنه الذلـيـل في بيته ، الجريح في رجولته ، وأصر على عودة أهله (والدته وأخواته) الذين لا معيل لهم غيره ، ليشاركوه النعم التي أنعم الله بها عليه.
ولكن أنى توافق (سها) على ذلك؟! وهي التي ترفض حتى الكلمة الطيبة من ابنتها لهم… إن الغيرة قـد أكلت قـلبها. والهواجس الخبيثة قد أفسدت عيشها ، فما تطيق أن ترى زوجها يسر لهم بحديث، أو يبادلهم الابتسام أو حتى الهموم، وتـصـر علـى الـرفـض… وتـضـحـي بأهلها عندما أعلنتها بعنجهية بعد جدل طويل :
-إن كان يروق لك بعدي عن أهلي فمن الآن فصاعداً لن أجعل أحد منهم يأتي لبيتك ، فلا أهلي ولا أهلك ، هل أعجبك ذلك؟!
فيرد وقد تخاذل أمامها كعادته :
- نعم أعجبني.
ويوصد بيت العقوق أبوابه أمام أهل كل من الزوجين ، ويكتفيان بأنفسهما وقرنائهما ...
وتمر الأيام والسنون ... ويـحـين موعد زفاف ابنتهم (سلوى) ويجد الأستاذ (نديم) أن هذه فرصته كي يشعر بحقه الطبـيـعـي فـي القوامة على المنزل ورئاسة الأسرة. وأن يظهر أمام أصهاره بالمظهر اللائق كرجل يحترم نفسه.
ودون استشارة حرمه (سها) دعا أهله لحضور الفرح كما دعا أهل زوجته أيضاً .. وهكذا .. أصبح عرس (سلوى) الفرح الذي وارى جراح أقاربها ولمَّ شعث أهلها ..
وسادت الحياة طبيعية ، لولا نذر الانتكاس التي كانت تظهر بين الحين والآخر فيعالجها نديم بصبره الدءوب وإصراره العنيد على عدم التفريط بوشائج القربى وصلة الأرحام.
وأنــا اليوم وبعد سنوات قليلة من هذا الزواج ، أرى (سها) - ولأول مرة - في انهيار مريع تبكي بـمـرارة وحرقة ما أسبغته على ابنتها (سلوى) من رفاه وما تلقى منها من الجحود.
فيبلغ بها الانـهـيار مداه وقد أسقط في يدها فتغطي وجهها بكلتا يديها وتنشج كالطفلة الصغيرة وهي تكوم جسدها الكليل على إحدى الأرائك، تنتحب من أعماق فؤادها المكلوم، وكلمات لا تكاد تبين تخرج من بين شهقاتها:
- آه من سلوى! قد صار لزوجها بيت ولا يأذن لي بدخوله!!
يا لها من عاقة ، عاقة لا خير فيها ، جحودة منكرة للجميل! ويزداد تشنجها ، عندما يمر أمام مخيلتها، شريط جحودها هي لفضل أهلها وحقوق زوجها وأهله... وكأنها تقول: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة ، ومن جرع غيره كأس العلقم احتساه بما قدمت يداه .[2]
* * *




من أعظم صور العقوق :_
طرد أم : قصة من صميم الحياة ..
.. كانت ترى فيه السعادة كل السعادة ، ترى فيه الدنيا كلها ولا ترى في الدنيا سواه ، وكذلك كان ؛ لأنه وحيدها ؛ وهي كذلك ! كانت وحيدته ؛ إذ أنهما كما يقول أهل هذا الزمان ( مقطوعان من شجرة ) ! وترجمتها : أنهما لا قريب لهما ولا نسيب ولا صهر لا حبيب !.
مات زوجها ولم يترك وراءه لها سواه ، وكذلك كان ؛ لأنه وحيدها ؛ وهي كذلك ! كانت وحيدته ؛ إذ أنهما كما يقول أهل هذا الزمان ( مقطوعان من شجرة ) ! وترجمتها : أنهما لا قريب لهما ولا نسيب ولا صهر لا حبيب !. مات زوجها ولم يترك وراءه لها سوى بيت من الطين ؛ يقبع في زاوية خجولة من حيٍّ قديم من أحياء الرياض ! ؛ ليس في بيتها ما يرد العين إلاَّ أثاثٌ إذا رأيته عرفت من أول نظرة أنه لم يعد يصلح إلاَّ لزمن ولَّى أصحابه قبل عشرين عاماً ؛ أما أصحاب زماننا فيأنفون أن يجلسوا على مثله ؛ لأن ثيابهم أنظف من قلوبهم ! أما أولئك السابقون فبعكسنا تماماً كانت قلوبهم أنظف من ثيابهم !. .. وترك لها في هذا البيت طفلاً رضيعاً في أشهره الأولى .. فكان كل متاعها في الدنيا : بيتاً من الطين ؛ وطفلاً كوجه الصبح الحزين ؛ وحفنةً تأتيها كل عام لا تملأ الكفَّ من مال يسمى ( الضمان الاجتماعي) تُقيم به صُلْبها وصُلب صغيرها وتدخر ما بقي منه للأيام السود في حياتهما وما أكثرها . رعته حتى أدخلته المدرسة ؛ وفي أول يوم غدا فيه إلى مدرسته يحمل على رأسه حقيبة صغيرة ينوء بحملها ! ليس فيها إلاَّ (..جزء عم .. والهجاء .. والحساب .. وقلم الرصاص .. و ! كسرة من خبز يابس هي إفطاره )! يجر خلفه طرف ( شماغه ) وطاقيته تتوسط رأسه الصغير . رأته ففاضت عيناها فرحاً بصغيرها الذي يستقبل أول أيام المستقبل . كان ديدنها أن تغدو معه كل صباح إلى مدرسته سيراً على الأقدام ؛ وتنتظره في حر الشمس ظهراً حتى يعود فتتلقاه بالقُبل .. تطبعها على خديه وتحمل عنه حقيبته ويعودان للبيت . .. فرحةٌ غامرة .. عمرت قلبها عندما سمعت بنبأ نجاحه في المرحلة الابتدائية .. بل كانت تخبر كل من تلقاه في طريقها أنَّ ابنها حمل الشهادة (الصفراء )! .
* * *
مرت السنون ؛ وإذ به يحمل الشهادة الجامعية ! من أعرق جامعات المملكة في قلب العاصمة ! ولا يزال مع وحيدته الحبيبة في بيت الطين ! وكانت فرحة ممزوجة بالألم والأمل معاً ؛ تلك التي كان سببها .. استئذانه حبيبته أن يفارقها ويفارق بلاده للسفر في بعثة لمواصلة دراسته العليا في بلاد الغرب ؛ يأتي بعدها حاملاً أعلى الشهادات . كاد قلبها ينخلع من البكاء عندما أغلقت عليه باب سيارة الأجرة التي ستوصله إلى مطار الرياض ليغيب بعدها عن حبيبته الغالية ست سنوات كاملات ! لا يعرف من أخبارها شيئاً إلاَّ بواسطة رسائل الجيران الأخيار ؛ الذين تطلب منهم جارتهم العجوز كتابتها لابنها الذي سافر بقلبها معه. .. كانت تضم صورته التي تزّين شهاداته السابقة على صدرها كل ليلة وتبلها بالدموع حتى يغلبها النوم .. فتنام لتراه يترآى لها في المنام ! هكذا هي طوال سنواتها العجاف ؛ كان الله في عونها .
* * *
مرت السنوات .. وإذ بها تتلقى رسالة من ابنها ( الدكتور ) .. يخبرها فيها أنه قاب قوسين أو أدنى من رحلة العودة ..لم تسعها صحراء نجدٍ كلها من فرحها . دعت الله كثيراً أن يبقيها حتى تراه .. وودعت النوم .. ترقباً لمجيئه . .. في يوم .. غلبتها عيناها ضحوةً ؛ فإذا باب بيت الطين الذي لم يكن ليغلق كما تُغلق أبوابنا اليوم يُفتح وتظهر منه مقدمة حقيبتين كبيرتين .. يدخل بعدها رجل قارب الثلاثين من عمره يلبس ملابساً لم يكن لبسها معتاداً في ذلك الوقت إلاَّ قليلاً .. (جاكيت .. وملحقاته من كرافته ..وحذاء يلمع لمعان البرق ) .. حضنته بين يديها الضعيفتين وغابت عن الدنيا ! ؛ بكاءٌ متبادل أزعج الجيران الواقفين في (..حوش ) المنزل الذين أتوا للترحيب والتهنئة بقدوم الابن الضيف(.. الدكتور ). * * *
وتمر السنون ! وينتقل بها إلى منزل اشتراه .. يليق به وبمنصبه ؛ أما هي فلا يليق بها ! ؛ ويودعان بيت الطين إلى غير رجعة ؛ ذلك أنه باعه بثمن بخس دراهم معدودة وكان فيه من أزهد الزاهدين ! .. أما هي ! فكأنها قطعت قطعةً من قلبها وألقتها .. وترآى لها منظر الجيران الطيبين ..لكنها صبرت ابتغاء رضاه ! بعد رضا الله تعالى .
* * *
أتته في يومٍ ؛ تعرض عليه الزواج من بنت (فلان ) .. امرأة ديّنة ..صالحة .. عفيفة .. محتشمة .. مطيعة ...تخدم في بيتها بنشاط بنات ذلك الزمان .. وهي مع ذلك .......! - ضحك وربت بيده على كتفها وقال : لم يحن الوقت بعد ...
* * *
حان الوقت ! وتزوج امرأة من طبقته هو ! ذات منصب وجمال .. لكنها كانت أنموذجاً من النساء بارعاً في التكبر والغرور والازدراء لأُمّه والاحتقار لها ولكلامها .. ولبسها .. و ..
* * *
صبرت الأم صبر أيوب !! ولم تشأ أن تجرح مشاعر ابنها ؛ فلم تخبره بشيء مما يقع لها معها . كانت تلك المرأة تسومها سوء العذاب كل يوم !. حتى إذا قدم الدكتور من عمله انفردت به في غرفتها .. وسردت له أحداث النهار كله ؛ وكيف أنها عانت من أمه وعانت وعانت و... هكذا كان الحال كل يومٍ!!!. كان يعجب أشد العجب إذا سأل أمه عن زوجته : كيف هي ؟ فتثني عليها خيراً ما استطاعت ؛ كل ذلك اتقاء ما يجرح شعوره ويسبب غضبه !. .. نفد صبره .. ونفد (بالدال) إيمانه .. ونفد ما كان في قلبه من بقايا رحمة عاد بها معه من بلاد الغرب على استحياء .. فوقف على رأس أُمّه وهي تغسل ثيابها في (..حوش ) المنزل ! – وتلك الأفعى وراءه بشعرها الطويل المنثور على ظهرها - وقال لها بصوت الآمر : - يا أمي .. إما أن تراعي منصب زوجتي وتستقبلي زميلاتها بثياب حسنة وكلام زين ولا تجلسي معهم في الصالة .. وإلاَّ .... التفتت الأم العجوز ! خلفها وظنت أنه يخاطب أحداً غيرها ؛ فلما لم تجد إلاَّ نفسها في فناء المنزل ؛ علمت أنها هي المقصودة بالكلام لوحدها فأظلمت الدنيا في عينيها .. واتكأت على ما بقي في جسمها من قوة . ودخلت ملحقها الصغير ورمت بنفسها على فراشها ؛ وخبأت رأسها في مخدتها وبكت حتى كاد أن ينشق قلبها ..
* * *
زادت الأفعى في خبثها ؛ وزادت أُذُن الدكتور في سماعها ! . حتى كانت الطامة الكبرى وقاصمة الظهر : - كم مرة قلت لك أن عقلية العجائز هذه لم تعد تناسبنا .. صارت قديمة. . تفهمين؟..حتى التلفون تردين عليه ؟ ..ما بقي شيء ما تدخلتي فيه في هذا البيت النكد ؟! الله يستر عليك نحن لم نعد نصلح لك ؛ ولا أنتِ تصلحين لنا .. - (حملت الأم في يدها كيساً من القماش أودعته ما لديها من ثياب .. وخرجت حتى إذا وقفت بباب القصر المنيف ! التفتت إليه ودموعها تسطع على خديها في ظهيرة تشوي الوجوه) ؛ وقالت : - سامحك الله يا ولدي .. والله ما عملت لكم إلاَّ كل خير أنت وزوجتك .. ووالله ما أذكر أني جرحتها بشيء .. سامحكم الله .. ثم شهقت شهقة ملؤها القهر .. وذهبت إلى حيث لا تعلم . حاول أن يوقظ ضميره فيلحق بها ؛ فمنعته الأفعى .. الرقطاء الجميلة الناعمة الملمس .. فلم يفعل .
* * *
مرت الأشهر ! وهي تساءل عنه ما تبقى من جيرانها ؛ لتعلم هل هو بخير ؛ هل مرض ؛ هل رزق بأطفال ؟! هل .. وكانت تنتقل من هذا الجار إلى هذا إلى ذاك .. وتمكث عند هؤلاء أياماً وعند هؤلاء شهراًًَ .. وهناك أكثر .. تأخذ في حياء شديد ما يقدمونه لها من صدقات .. وكأنها تبلع الجمر الأحمر .. مرض .. دخل المستشفى .. سمعت أمه بالخبر .. استأجرت سيارة الأجرة لتراه .. وجدت الأفعى عند باب غرفته في المستشفى ؛ فأغرت بها الأطباء والممرضات وأنها عجوز مجنونة .. لا عقل لها نخاف على الأجهزة الطبية منها .. فأخرجوها وهي تنتحب .. - أريد أن أراه .. يا ناس هذا ولدي .. حبيبي .. فلذة كبدي .. الله يخليكم لا تحرموني من رؤيته ... خرج من المستشفى ولم يُخبر بزيارة أمه له . أنفق جُلَّ أمواله في علاج مرضه ؛ بل كل ماله ؛ وباع بعض أثاث منزله .. وقفت الأفعى الرقطاء .. في وجهه يوماً على إثر خلاف بينهما لتكثر عليه الطلبات ؛ فلما لم يستجب قالت بصلافة المسترجلات -: صبرت عليك وعلى أمك من قبل .. أنت الآن وللأسف لم تعد رجلاً .. ولا استعداد لدي أكثر من هذا أن أعيش مع فقير مثلك .. طلقني .. هل تسمع .. طلقني .. قال :
كأنها صفعتني على وجهي بيد من حديد ؛ وألقتني في صحراء النفود عرياناً ، طلقها .. وذهب يبحث عن ذكريات قديمة مفقودة .. اسمها ( أمه الحبيبة الغالية .. المظلومة).. طرق باب كل بيت في الحي القديم ؛ وسأل عنها كل جار .. لكن دون جدوى .. بحث عنها في ثلاجات المستشفيات .. في أقسام الشرط .. دون جدوى أيضاً .. أعياه التعب ! حتى ظن أنها قد ماتت .. هام على وجهه بحثاً عنها .. وأيضاً بلا جدوى !، وفي يومٍ .. وفي طريق عودته مر بمسجد الحي القديم ليصلي به صلاة المغرب .. علَّه يجد عنها خبراً لدى جيرانه الأقدمين .. فإذا به يرى منظراً يؤمن لرؤيته الملحدون ويتوب العاصون .. منظراً يقطع أنياط القلوب ويمزق الأحشاء ويستنزف الدموع من العين بالقوة ... ماذا تتوقعون ؟! • إنها أمُّه الحبيبة الغالية (تشحذ) الناس على رصيف المسجد .. وتمد يداً لطالما مدتها إليه في صغره بالريال والخمسة والعشرة ... تماماً كما تُمد إليها أيدي المصلين الآن بالريال والخمسة و.. و.. و .. ولطالما عطفت عليه في صغره وحزنت عليه في غربته في كبره .. واليوم تتسول لتعيش فقد ملت من عطايا وصدقات الجيران وأحست أنها عالةٌ عليهم وأنها أذلت نفسها كثيراً كثيراً .. فلجأت إلى استجداء عباد الله بجوار بيت الله !. ارتمى بين يديها يقبل أقدامها ويديها ويضع قدميها على خديه .. وبكاؤه يشق سماء نجدٍ . منظرٌ يقف الحليم أمامه حيران .. حملها بين يديه .. أمام المصلين وذهب بها يمشي على وجهه إلى منزله .. وهو يردد بصوت متهدج مخنوق بالدموع والحسرات ؛ وجؤاره يملأ الشوارع : - لعنة[3] الله على الزوجة الفاجرة .. وعلى الدكتوراه .. وعلى العمارة .. وعلى الراتب .. وعلى المال ... وعلى من فرق بيني وبين أمي ..
* * *
وذهب يحملها بين ذراعيه وطرف (شماغه ) يخط على الأرض و(عقاله ) على ذراعه اليسرى ..وولى ظهره للدنيا !
* * *
وبعد ... فوالله لقد حاولت جاهداً أن أجد تعليقاً أختم به هذه القصة ؛ فخنقتني العبرة فلم أستطع .. فاقرؤوها هكذا كما هي : من دون تعليق ..![4]
مرضُ أمًّ ، وبنتٌ عاقة :_
أمٌّ تتدهور صحتها يوماً بعد يوم .. وتبحث عن ابنتها لتعطيها الدواء فلا تجدها .. فالبنت مشغولة بشراء فساتين زواجها .. فتتنقل من سوق إلى آخر .. من خياط إلى آخر .. والأمُّّ تصارع الآلام الرهيبة .. تمضي الأيام ثقيلة على الأمَّ .. وثقيلة ً جداً على البنت التي تستعجل يوم فرحها وزواجها ..
اقترب موعد الزواج .. ودنت الأمُّ من سكرات الموت .. حان اليوم المشهود .. ولبست البنت الفستان البيض والأمُّ تنظر بعينٍ كسيرة إلى قماش أبيض ( كفن ) مُعَدٍّ لها في زاوية البيت ..دخلت البنت في نشوة الفرح .. _ والنساء حولها كثير في صالة الأفراح _ فقامت ترقص .. والأمُّ .. ترتفع روحها إلى بارئها .. فحامت روحها على الحفل .. تعاتبهم بهذه الأبيات[5] :_
والسعد من حولكم يشدو به القمـر
في قبضة الموت والأنفـاس تعـتصر
مـوتي ورفرف في أعصابي الكـدرُ؟
قلـبٌ.على جمرة الآهات ينصهـرُ؟
في لحظة الموت ،عينُ اللحن، والـوترُ
وعـاد يـبكي ونـار الحزن تستعر
شـوق إليكم فحامت وهي تحتـضر
فـلم يـر نورها من جـمعكم بصرُ
تـزينـت
فـظنـنتم أنـها قـمر
مـن صـورتي لمعاني شدوكم صور
شـمطـاء يختال في أعطافها الخور ؟
سـهام نكرانـكم كالشهب تنهمر ؟
مـن شـوكة كاد قـلبي عنه ينفطر
إلـي يـدي إذ دنا من نبضها الخصر
وبعـضكم لـرحيلـي كـان ينتظر
كـأنـما لـم يكن لـي بينكم أثـرُ


طاب الغناء وطاب الرقص والسمر ‍
تمـتـعوا بـنعـيم زائـل وأنـا ‍
أحـبتي أيـن أنـتم حين داهمني ‍
أما سـمعتم ندائي حين أرسَلـه ‍
يا ويحـكم شغلتكم عن مرافقتي ‍
تلفّت القلبُ لم يبصر لـكم أثراً ‍
وعند ما نزعت روحي ألمَّ بـها ‍
طافت على حفلكم تبكي مودعةً ‍
أعمت بصائركم أضـواءُ فاسقةٍ ‍
أحـبتي لـو صبرتم ليلة ظهرت ‍
أكان لابد أن تشدو عـلى كفني ‍
أكان لابد أن أقضي وفي كبدي ‍
لو اشتكى بعضكم إذ كنت بينكم ‍
وهـا أنـا مِتُ وحدي لم تُمد يدٌ ‍
أظـنكم قـد مللتم من مرافقتي ‍
فها أنا مِتُ فاشدوا وارقصوا طرباً




[1] - تحقيق الألباني (ضعيف‌)‌ انظر حديث رقم‌:‌ 2329 في ضعيف الجامع‌.‌

[2] - العقوق : خولة درويش .. البيان : عدد 27/ رمضان / 1410هـ .

[3] - على أنه لا ينبغي اللعن إلا على من يستحقه ، لكن القصة جاءت هكذا .

[4] - هذا المقال كتبته قبل سنوات ونشر في جريدة المدينة ، ومواقع كثيرة جداً في الإنترنت .

[5] - للشاعر الفذ الأستاذ / حسن بن محمد الزهراني نشرت في مجلة الغرفة التجارية بمنطقة الباحة قبل سنوات ..


 
مواضيع : صقر الجنوب



رد مع اقتباس