الرحلة 315

!..أقول : أفصخ





هذه التفاصيل التي لازلت أذكرها على تلك الشاشة التي تصدرت أعلى الصالة :
الرحلة 315 .. الرياض .. 21:00 .. تأخرت ..

كانت الإياب لعاصمة الجدران والشوارع المتجعدة ..
كان ذلك كفيلاً بدق الكثير من القلق بي .. والتعب أيضاً .. وليلة أخرى من اللانوم ..
بدأت بتشريح السيناريوهات .. ماذا لو ألغيت ..!
ماذا عن موعدي المهم غداً بالجريدة ..! أبو وليد لن يعذرني ..!
صوت قبيح يقاطعني : على السادة المسافرين على متن الرحلة رقم 315 والمتجهة للرياض سرعة التوجه للبوابة رقم 5 وشكراً ..
سحبت شنطتي كـ طالب سيئ يمم وجهه شطر مدرسته صباحاً .. وبطابور يشبه طوابير المخابز برمضان .. وقفت منصاعاً ..
كان أمامي من يبدو من ((علباه )) :


أنه مدرسي الفيزياء أحمد أبو الفتوح عباس أيام الثانوية الغابرة ..
منديل أبيض يحيط بياقته وقد تصبب عرقاً .. وتصببت أنا شتماً للحدود .. وإتفاقيات سايكس بيكو ..
بيني وبين نفسي بالطبع ..

بدأ الطابور البشري بالتزحزح ببطء .. وبدأت بدغدغة نفسي بالخلاص ..
وصلنا أنا ورفيقي إلى السير الذي يدور بلا كلل ..
وبدأ صاحبي الذي لم أرى إلا ظهره برفع شنطه المصابة بالسمنة لتفتيشها ..
كراتين كتب عليها بخط أزرق بشع : الجحة أم إسماعيل - الفيوم - شارع السلخانة
ومصرورات خضراء ألصق عليها : ضد الكسر .. وشنط ضخمة أخرى ..
تمت عملية إجلاء حاجياته بنجاح ..

وضعت شنطتي السوداء كـ حظي تلك الليلة ..على سير بدا للوهلة الأولى أنه مضطرب ..
قبل أن يصرخ بي موظف الجوازات: أفصخ ..!
قلت وقد فججت عيناي : أفا .. وش أفصخ ..!
امتعض وردد : الجزم .. الجزم ..!
قلت : وشوله ..!
قال : احترازات أمنية ..
ألقيت بجزمتي النتنتين فوق تلك الدواليب ..
وكذلك : كبكاتي .. وساعتي .. وأقلامي .. ومحفظتي .. جوالي
أحسست بأني كائن حي على وشك التعري ..

وأشفقت على من يقف خلفي .. لا لشئ إلا لأنه سيرى ماقد يجعله مصاباً بعقدة نفسية
تلاحقه على وسادته ليلاً .. أو أن يخوف أبناءه العاصين له بقوله :
ترى بيجيكم اللي شفته بالمطار عاري ..!
بدأت بفك أزرار ثوبي .. قبل أن يتداركني :
وش بتسوي أنت ..!
قلت بحط ثوبي على السير ..!

ضحك وكأنه يقول : وش هالبلاوي اللي تتحذف علينا ياربي ..!
عبرت ذلك الباب بجواربي حافياً.. مفتوح الأكمام .. كـ متسول حقيقي ..
عبرته بسلام .. وأنا أعيد مافقدته مؤقتا ..
تسارعت خطاي كمن يعتقد أن الطائرة ستتركه .. كنت متخماً حينها بعدم الارتياح
والكثير من الخوف ..


دخلت الطائرة .. حسناً الكرسي 13 B .. عبرت الممر بين الكراسي ..
لفت انتباهي حينها كهل يقبع على يساري .. رث الثياب ..
أشعث بلحية غير مرتبة خالط البياض فيها سوادها ..
قد بدت إحدى عينيه بيضاء .. كان يتمتم بما لم أسمعه .. حتى ارتفع صوته تدريجياً :
لاإله إلا الله .. لاحول ولاقوة إلا بالله .. الله يستر .. الله يستر ..!
أخذ بتكرار ذلك ..

أحسست بأني على وشك خنقه .. فلاشئ كان ينقصني إلا هو ..
رفعت عيني عنه .. عالياً .. كان يقبع بالكرسي : A13 ..
بلغة أخرى : كان بجانبي ..!
أخذت بالتردد .. وربما الهرب قبل أن تخاطبني المضيفة :
تفضل على كرسيك ..
ابتسمت لي ولسان حالها يقول : أخلص أنطق ..!

ألتفت لزميل رحلتي .. ابتسم لي هو الآخر .. لكن ابتسامته كانت مختلفة بعض الشئ ..
كان يبدو أثرماً .. لكن ذلك وللحق لم يكن الشئ الوحيد الذي يبعث على القلق ..
جلست بجانبه كانت عينه متشبثة ً بالنافذة وهو يتمتم بكلام ..
سمعته بعضا منه : يارب سترك .. الموت حق ..
ألقيت برأسي بين يدي .. أحسست بشئ يخنقني ..
رفعت رأسي عالياً .. بدت الأصوات تنحسر تدريجياً ..
أخذت عيناي بالتجول بتفاصيل الركاب المتداخلة..
ذلك يحشر شنطته بالأعلى .. وآخر يطفئ جواله ..
خطوات بلا صوت ..أيدي متموجة وأجساد كثيرة ..
رفعت يدي للمضيفة سألتها عن إمكانية تغيير مكاني بلا سبب حقيقي ..

لكنها جاوبتني بلطف : الطائرة فلّ ..

أخذ من بجانبي يهمس لي بصوت غير مريح : الطيارة هي الطيارة .. واللي كاتبه الله بيصير ..!
كانت جملته الأخيرة كفيلة بدق المزيد من القلق بي ..
صوت الكابتن يثرثر كالعادة عن ربط الأحزمة ..
كنت أقلب الأفكار السوداوية حينها والتي غرسها هذا المتشائم بجانبي ..
ماذا لو سقطت بنا الطيارة من على ارتفاع 39 ألف قدم .. هل سيجمعون أجزائي كـ لعبة puzzle
أم سيبحثون عن أنفي الصغير طويلاً .. لابد أنهم سيفعلون ذلك ..
مالذي سأفعله بالوقت الذي نهوي به .. هل سأتصل بأحدهم لأقول :
أوكي الطيارة بتطيح فينا .. أشوفكم على خير ..!
أو سأبعث بـ sms لصديقي قائلاً : بتلقون خشمي بيدي ..!
أم سأصارخ وأنا ممسك بشوشتي : بموت ..!
أستغفر الله .. ماهذا بحديث مؤمن .. وكلّ الله .. قمعت نفسي .. كعادتنا القمعية ..
أحسست بيد خشنة تمسك يدي .. جفلت قبل أن يخاطبني ذلك اللعين :
بعام ألفين قلت لخويي خلف العلوي أن طيارتكم بتطيح ..
قعد يضحك مني .. طاحت عاد .. بالبحر تصدق ماتوا كلهم .. ماتـ...
قاطعته :
ياعمّ .. وش سالفتك ..!
عندك مشكلة معينة .. ترى لك ربع ساعة وأنت مربكني .. أركد يبن الحلال تراني على جريف ..
تبسم خجلاً .. وأشاح بوجهه ناحية النافذة ..


أصوات المحركات وقد علا هديرها .. وصوت شخير من بجانبي أيضاً
قلت بنفسي : خرشتني ونمت يااب*** ..
رد علي بشخير متقطع ..
تنفست من الصعداء القليل بعد أن سمعت جرس فك الأحزمة يقرع ..
أضواء المدينة بدت بالتلاشي .. كنا نبتعد ..
سحبت تلك الرواية التي كنت قد خبأتها بجيب شنطتي
دفنت عيناي بها قراءة ً.. اكتشفت فيما بعد أنها لاتستحق الحبر الذي سفك من أجلها..
صفعت دفتيها ببعضهما .. وأدخلتها بمكانها ..
أخذت بالتملل .. تفحصت أصابعي .. تبدو حمراء .. نحيلة ..قمت بعدّهم ..
كـ طفل برئ لايشغله شئ .. أخذت بالتفكير :
ماذا لو لم يخلقني الله إنساناً .. مالذي سأكونه ..

قطو مشرد بأحد شوارع 10 بخنشليلة يلاحقني ذلك الشقي ليحشرني بزاوية ممارساً ركلي .. أم صقر عند أحد المتنفذين يقوم بجرجرتي من مقناص لمقناص ويثرثر علي أحيانا بصوته الفخم :

والله ياعسّاف .. أنك طيرن نشمي .. يالله يابوي الله الله بالصيد السنع ..!
ربما سأكون سياجاً حديدياً تلف به قطعة هامور منتفخ يخاف الله كثيراً.. أو ولاعة بجيب مراهق يقذفني بكل قوته على ذلك جدار منتظراً مني أن أحدث دوياً ..
أخذت بالسخرية مني .. كيف لرجل عاقل أن يتهرطق بهذه الحواديت .. تباً .. يبدو أني سأجنّ قبلهم ..
بدأت الأشياء تغفو .. والتفاصيل تغور ..

قبل أن يلكزني أحدهم :

يالحبيب .. قمّ .. وصلنا ..

فزعت ألتفت لمن عن يميني لم يكن موجوداً ..وقفت كانت الكراسي خالية ..
أخذت بترتيب ماأعتفس مني .. سحبت شنطتي معي .. وهرولت مسرعاً لباب الطائرة ..
قبل أن يودعني المضيف قائلاً : الحمد لله على السلامة ..
تبسمت وألتفت نحوه قائلاً : الله يسـ ..!

هو أنت ..!
قال: عفواً ..

قلت: أنت اللي كنت بجنبي .. ومسبب لي قلق فظيع .. شلون طيب ..!

كيف مضيف وأنت كنت هناك طيـ..

قال بلهجة مهذبة .. عفواً أنا مضيف على متن هالطائرة لي خمس سنوات ..

الحمد لله على السلامة مرة ثانية .. تفضل ..

أشار بيده نحو الباب ..!

المزيد...

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .