رحلة في ذاكرة الشاعر جريبيع رحمه الله

رحلة في ذاكرة الشاعر جريبيع رحمه الله
الشاعر جريبيع
لدينا في هذه الحلقة شاعر يختلف عن كل الشعراء فهو من الوزن الثقيل رغم نحافة جسمه شاعر زرع خصومه شائعات حوله ومنح من الألقاب ما هو براء منها فمنهم من قيل أنه خليفة الحطيئة وجرير والفرزدق في الهجاء فبحثنا في أشعاره عند من يحفظها فلم نجد ما يؤيد تلك الاتهامات ثم اتهمه آخرون أنه دميم الخلقة قصير القامة إلا أن معارفه أنكروا ذلك وقالوا انه رجل اصفر البشرة ليس بالطويل ولا بالقصير نحيل الجسم يتمتع بذاكرة قوية (1) وبنية قدت من الحديد وقلبا كالصخر تتكسر عليه النصال والبعض اتخذ من قصيدته التي يقول فيها أنا (جريبيع من ذرو الشياطين) سلماً ينالون منه ولم يعلموا عن أسبابها وما ذا ترمز إليه تلك القصيدة المعقدة والتي زادته شهرة وإليكم سيرته الشخصية
نسبه : جريبيع بن صالح بن مبارك بن صالح الحسني الزهراني
مكان مولده : قرية وادي الصدر ( إحدى قرى قبيلة بني حسن ) من بطن بني يوس (أوس )
تاريخ ولادته : لم يحفظ لنا التاريخ شيئاً عن تاريخ ولادته, أسوة بمن عاش تلك الفترة التي كانت تؤرخ بالأحداث ولكن على الأرجح من قبل الرواة أن ميلاده كان في العقد السادس أو السابع من القرن الثالث عشر من 1265 إلى 1275هـ- , عاش ردحا من الزمن (2)
حياته :عاش حياته التي امتدت إلى أكثر من مائة وعشر سنوات في ربوع منطقة غامد وزهران متنقلا بين قراها يقارع الشعراء وينثر درر شعره في المحافل.
ماذا يميز شعر جريبيع:
يميزه قوته وتعقيداته اللفظية والتعجيز في مواقع كثيرة ويمتاز الشاعر بسرعة البديهة والغزارة الشعرية، حيث إنه أحيانا كثيرة يوقف ناقع الزير قبل أن تدور الصفوف وبعد انتهاء الشاعر المقابل من قصيدته بدعا أورداً.
شجاعته :
شجاعته جعلت له أمثالاً سار بها الركبان كما ساروا بقصائده وهذه الأمثال تنم عن شجاعته فحين سأله أحد ماذا تريد بهذا العطيف رد شعرا :
نحتصي به لقطع الزرب والا لخشّار المناشي (3)
والذي ياتغيمر عندنا ما يحصّل فايده (4)
ومن الأمثال قوله
اللي عنده عطيف ولا يحتذي به فليس بعطيف (5)
واللي عنده جنبيه ما يتحسن بها فليست بجنبيه (6)
ودليل على ذلك أن هناك روايات تذكر أن جريبيع التقى في سوق سبت النقعة -ببني حسن- الشاعر صالح بن عقار وقد سعى بعض مرتادي السوق لإشعال الفتنة بينهما فارتجل الشاعر جريبيع هذه القصيدة:

يا حدا حدا
الشبا حادي
واللحد حدان
والحديا حام
والدم انـّثر
الرد
يا حدا حدا
الشبا حادي
واللحد حدان
والحديا حام
والدم انـّثر

مجمل القصيدة أن الحرب قادمة وأن الشبا بمعني الجنابي حادة وأن لحود القبور جاهزة وأن الحداة تحوم لتشرب من الدماء المتناثر على الأرض
وكان الرد مثل البدع مما حدى بالشاعر الكبير صالح بن عقار الشاعر المتمكن القوي أن ينسحب حتى لا تقع فتنة في السوق ولكن الأغرب من ذلك أن الشاعر جريبيع انتحى جانبا من السوق وطلب من عقداء السوق كسوة على هذه القصيدة وقد استجيب لطلبه وأعطي الكسوة وهذا يعطينا دليلا قاطعا على شجاعته وتمسكه برأيه.
الشاعر والتعليم
الشاعر لم يدلف إلى الكتاتيب آنذاك ولا يعرف القراءة و الكتابة ورغم ذلك انظر إلى هذه القصيدة التي ضمنها بعض الحروف وما هذا إلا دليلا على قوة الذاكرة في حفظ المفردات اللغوية التي جعلته يصول ويجول بين الشعراء

بَدّيت ذكرك يالذي اسمه بـ لِفْ والرّاي والبا
ثم الصلاة عليك يا ميم حا والميم دال
شفيعنا من جيم والهاء ولِفْ والنون ميما

أما التعجيز اللفظي الذي تفوق به عن شعراء عصره نورد هذه الزملة التي بناها على حرف الغين
البدع
الله من غَولٍ يغلغلني بغير الغايه والغاوي عرفتْ لغاه
ومغاغات الغُراب أغوت غلام غايبٍ في غمة الغَدر
الرد
الله من غُولٍ يغلغلني بغير الغايه والغاوي عرفتْ لغاه
ومغاغات الغُراب أغوت غلامٍ غايبٍ في غُمة الغُدر
ومن المفيد القول إن معنى البدع يختلف جذرياً عن معنى الرد حتى وإن تطابقت الكلمات جميعها
جريبيع وشعر العرضه
ومن التعجيز الحرفي على حرف الباء ( ب( وهي عبارة عن قصيدةٍ ترحيبية بالشاعر عبدالله الزرقوي ومن بصحبته من ضيوف القِراء من قبيلة بني ثعلبة من غامد . والحقيقة إنها المرة الأولى التي أسمع بمثل هذه القصيدة التي لو شرحت شرحا أدبيا لكان لها صدى آخر.

البدع
فالبدا والغبا يا مرحبا عدّ هبان الصبا
يا بني ثعلبا يا أهل الشبا والمعابر للتعبّا
مثل جُند الدبا يوم احتبا ظلت أرض الله تريش
الرد
يوم جانا النبا ما نرهبا يوم ولد اللاش أبا
يوم نتعصبّا ما نرغبا ونحسّب للتعبّا
مدحنا يُنْصبا لو نُعُصبا مالحُجير لا قريش(7)
زملاء الشاعر جريبيع في مسيرته الشعرية
الشاعر بن ثامرة والشاعر علي الغبيشى والشاعر الزرقوي والشاعر عيفان الجعيرة والشاعر المالحي رحمهم الله وأموات المسلمين والشاعر سعيد الاصوك أمد الله في حياته وله معه قصائد معقدة وهذا يعطينا دليلا أنه عاش بين عمالقة الشعر. وغير المتمكن ليس له مكان بينهم، فكان ندا لهم في ذلك الزمان ولو لم يكن كذلك لما برز ولمع اسمه بينهم وأشتهر
جريبيع وقصائد المسحباني
هذا النوع من الالعاب كان يغلب عليها الغزل ولكن جريبيع كان يحاول الابتعاد عن الغزل ما أمكن
البدع
ما نفعني الدوى من كل بندر ...
وثمانين كيّه من شبابه
الرد
مرحبا ياهل الريحان والدُر ...
قالها الشاعر اللي من شبابه
جريبيع وطرق الجبل
وهذا النوع كان يتغنى به كثيرا من الشعراء لأنهم يجدون فيه مجالاً للتغزل ولكن شاعرنا هذا لم يتحفنا بقصيدة واحدة غزليه وإليكم هذه القصيدة.
البدع
أزفر لبر له وكلا به وقيفين
بعد مراح وقافي
ما يخلطونه عا العشر وحبوب وقفا
فى صرامه مايقفون
وإلا فباقى الزرع ماهلا قفافه (8)

يقول الشاعر جريبيع متمنيا البر الذي له وكلا واقفين عليه بعد أن ينقى من الشوائب حيث يمرحه ناس واقفين مستغلين الرياح ولايخلط على العشر أو حبوب الوقف وعند صرامه لم يتركونه إلا بعد أن يخزن في البيوت.

جريبيع والنوع المجالسي
هذه القصيدة لها قصة متداولة فقد اشترى جريبيع ثوراً من تهامة مؤجل الثمن وكأن صاحب الثور كرر عليه المطالبة بالقيمة ولكن العسر منعه من التسديد وأخيرا وبعد أن طال الوقت جاء صاحب الثور وهدده بالشكوى إن لم يدفع المبلغ فوافق هذا رغبة عنده فقال: نذهب سويا.
وفي منزل الشيخ راشد بن رقوش رحمهم الله جميعا قال هذه القصيدة فسدد عنه المبلغ
البدع
يا سلامي على الشيّخ الذي يلتقي بندق يثـور
بو مساعد طويل السيف ماهو شبه أولا تهامي
يعطي الحق طلابه ويُوزي الذِي في ولع ظيـم
والصواعب يُثنّي روسها مِثل ما ثنّي الجواحِد
وأكرم الضّيف لو يخلون جمع العرب والمُد خِليِ
الرد
يا راشد قدر الخالق ونشري من التُّهمان ثـور
وأنت ذا تعرف المعنى وتعرف معاملة التُّهامي
ما يظلّي وسيعٌ خاطره والعسر شـانٌ عظيـم
وأقبل اليوم قال أَبغدي أشكيك قلت الدرب واحد
ولفينا تواسـي بيننـا الحكـم هـذا مدخلـي
الخاتمة
اخترت شطرا من القصيدة لتكون خاتمة سيرة هذا الشاعر العبقري وهذا اقل ما ينطبق عليه وما يستحقه منا
البدع
في آخر الهجرة يالمغبون صـح صايـح
وان كان ودّك مع صيحـك نصح صحنـا
من ايش ذا الصيح من هذا الصحّا الصّابه
ماكان ودّي يُكن لي في الصحـا حِصّـه
الا بَغُزر النشايــا والصحـا حـــوّل
واذل تغــدون بُكمٌ يـا لفصُوحيّـــه
الرد
إلى بنيت المساجد فابن صـح صايـح
والى بلينـا عمـدنا في نُصـح صحنـا
وبُندقٌ في كما ذا النّـص حصّـا بـه
ولا تهـرّج بشينـه في الصحـاح اصّه
واللي عطيبٌ توخّـر والصحـاح أول
ماينفعــه لو يداويه الـف صُوحيّــه
وفاته :
بعد عمر حافل بالعطاء والتنقل ذهب إلى مصير كل حي فانتقل رحمة الله عليه وعلى أموات المسلمين إلى الرفيق الأعلى وذلك في عام (1379هـ(. وقد كان له من النساء أكثر من واحده وخلف كثيرا من الأبناء إلا أنه ساروا إلى رحمة الله وهم لازالوا في الصغر وقد بقي اثنان حفظهم الباري كي يحيون ذكر والدهما وهما أحمد وصالح ولم يكن أحدهما شاعر
أما حفيده صالح بن أحمد الذي يعمل في مجال التعليم فإنه شاعر فصي ولدية موهبة في شعر الشقر إلا انه مقل ويتجنب محافل العرضة رغ تمكنه
وختاما أرجو أن أكون قد وفقت في طرح سيرة وبعض قصائد الشاعر جريبيع رحمة الله عليه وعلى أموات المسلمين كما أنني في نفس الوقت أطلب من حفيده الأستاذ صالح أن يتبني إصدار كتاب يضم بين دفتيه جميع ما تبقى من أشعار جده وأنني أضع يدي في يده لهذه المهمة والله من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل.
وإلى اللقاء مع شاعر آخر
بقلم /قينان بن جمعان الزهراني