لسان الدين بن الخطيب

فيلسوف أندلسي أسس لعلم الجمال والحب وقتل بتهمة الزندقة



لسان الدين بن الخطيب

برغم الآثار المتعددة التي تركها لسان الدين بن الخطيب المولود في 713هـ الموافق 1313م، إلا أن الصفة التي تميزه بأنه رائد فلسفة الجمال الإنساني في التاريخ الإسلامي، بل إن ما قدمه من إسهامات هو الذي أدى به إلى الموت مقتولاً وحرق جثته في غرناطة سنة 776هـ الموافق 1374م.
وإذا كان مشروع ابن الخطيب الجمالي لم يضئ بالشكل الوافي، إلا أن الأسس التي وضعها والقيم التي عبر عنها تكاد تضاهي بل تتفوق على العديد من فلاسفة الجمال والمحبة المتقدمين في الغرب.

ويكاد ابن الخطيب أن يكون مهضوم الحق قياساً بفلاسفة عرب آخرين، ربما لأن تنوع علمه أخذ منه ذلك، ليصنف في مجالات أخرى.
صاحب الوزارتين

ولد حمد بن عبد الله السّلماني الخطيب، الشاعر والمؤرخ والطبيب والفيلسوف بمدينة لوشة الأندلسية، جنوب إسبانيا حالياً، وكان غزير المعارف ما بين الأدب والطب والفلسفة.
وقد قضى معظم عمره في غرناطة يخدم بلاط بني نصر ولهذا لقب بصاحب الوزارتين أي الوزارة والكتابة، وإلى اليوم تشاهد بعضا من أشعاره منقوشة على حوائط قصر الحمراء بغرناطة.
وقد دخل الوزارة بعد مقتل والده في إحدى المعارك، ليحل محله في خدمة الحكام من بني الأحمر، إلى أن ترقى للوزارة بذكائه وجديته، وكان لسان الدين وقتذاك في الثامنة والعشرين من عمره ويعمل مترجماً.

السياسة التي سرقته

ثمة مؤلفات حديثة تعالج تجربته، ولكن قليل منها ينظر إلى الجانب الجمالي ويكتفي بالموضوعات السياسية وصفات الرجل وشخصيته التي يقال إنها متقلبة بين الجشع والزهد، وإنه كان ثرياً ويعشق اقتناء القصور، كما أشار ابن خلدون الذي عاصره.
ولعبت السياسة دورها السلبي في أن تخلق له الأعداء أكثر من الأصدقاء، وخصمت من بعده الجمالي والفلسفي، وهو القائل:

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى
يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمـا
فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ

وهو موشح أندلسي مشهور، تتعمق فيه رؤية الجمال والحياة والطبيعة ما بين الطبيعة الإنسانية والبراري والرياض.
الاتهام بالزندقة

تعرض الرجل للمضايقات التي أدت به لهجرة منصبه والسفر خلسة إلى المغرب، إذ اتهم بالزندقة وطُعن في دينه، وقد قام القاضي النباهي بإحراق كتبه في ساحة غرناطة مع مصادرة أملاكه، وكانت تلك أول الإشارات إلى المضايقات التي واجهته.
ومن ثم انتهت حياته بعد أن فقد حماية سلطان المغرب أبي فارس الذي رفض أن يسلمه لقاضي غرناطة لكي ينفذ عليه العقوبة، فمع وفاة أبي فارس، قام ابن الأحمر بابتعاث وزيره ابن زمرك وهو من تلامذة الخطيب الذين خلفوه في الوزارة، إلى فاس بالمغرب حيث قبض على معلمه وكيلت إليه التهم بعد نقاش قضائي غير متكافئ.
وكان كتابه الأخير "روضة التعريف بالحب الشريف" هو السم الذي دُس له لكي يتم قتله بطريقة بشعة، حيث دس عليه الوزير سليمان بن داود بعضا من حاشيته، فطرقوا سجنه ليلاً وقتلوه ومن ثم أخرجوا جثته ونكلوا به حرقاً في اليوم التالي من الدفن ثم أعيد دفنه، ويصف ابن خلدون ذلك بقوله: "الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه".
رؤية كونية حول الجمال

لقد كان ابن الخطيب ضحية للصراع السياسي الذي أخذ منه الكثير جداً وأضعف من مركزه العلمي في الحضارة، لكن آثاره ظلت شاهدة عليه إلى اليوم، كما أن النهاية التي مات بها تكشف أن الرجل كان له من العلم والنظريات ما يفوق مجايليه.
وقد سعى في نهاية حياته لبلورة رؤية كونية من خلال العقيدة الدينية للحياة والإنسان ومناظير الحب التي تجمع كل ذلك في تكامل رائع، وكان يرى أن كل حركة تكاملية في هذا الكون إنما هي نتيجةٌ لدافع الحب.
وفلسفته في الحب والجمال، وهي الأهم في فكره، ترى أن الإنسان إذا تخلص من الارتكاس للأنا والذاتية الصرفة وانطلق في الجو الفسيح استطاع أن يحقق الجذب لكل الأشياء من حوله، وبهذا العشق الباهي يستطيع الإنسان أن يتحمل المسؤوليات الكبرى في الكون ويزيل الصراعات وينهي الحروب وكل ما يقوم على الأنا الضيقة.
طريق الحب والوئام الإنساني

يقوم مشروع ابن الخطيب في خلاصته على تتبع طريق الحب والجمال الذي يقوم على الانسجام والوئام والتكامل الإنساني، وهو المجال الفلسفي والرؤيوي الذي تقول به آخر علوم النفس وتنمية الإنسان في أن تحرير الذات ونقلها إلى السمو الروحي والمحبة هو الذي يجعل الكائن إيجابياً ودافعاً لطاقة العالم. هذه الانتباهات الذكية التي سجلها ابن الخطيب وكانت مجال ملاحظته وتجربته الروحية والإنسانية منذ وقت مبكر.
إن عطاء ابن الخطيب في تحقيق الوئام الكوني يتطلب اليوم المزيد من الدراسات وفق منهجية العصر، ذلك النظر العميق الذي يرى أن "كل الموجودات تتحرك بالحبّ، فالحبّ هو دافع الإنسان والحيوان والجماد في كل ما يصدر عنهم من حركة تكاملية".

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى
يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمـا
فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ