عرض مشاركة واحدة
قديم 11/01/2020, 03:12 AM   #29
المؤسس والمشـــرف العــــام


الصورة الرمزية صقر الجنوب
صقر الجنوب ٌهé÷àٌ يà ôîًَىه

افتراضي



الشاعر ( محمد ملاسي الغامدي) يرحمه الله

كاتب المعاريض ابو ناصر الغامدي Send an email مايو 25, 20190 131 53 دقائق



أنعم الله سبحانه على بعض خلقه بنعم لم يعطها آخرين ومن بينها نعمة ( قرض الشعر ) فكثير ممن لم يعط هذه النعمة ليس بكاره لما يقوله الشعراء أو بعضهم بل قد تجد من بينهم من يحب الشعر ويتلذذ بترديده ويتمنى لوأنّه يستطيع قول بيت واحد يعبر به عما يختلج في نفسه من مشاعر متباينة في كثير من المواقف فكيف به لو أُعطى الملَكة وأظهر ما كَمُن وقبل ذلك وبعده تم تخليد ذكراه بما يقول ….. إذا….. فقرض الشعر نعمة كباقي النعم قد ترفع صاحبها وقد تهوى به في مكان سحيق .

قصيدة وربما بيت من قصيدة ينطوي على ( مَثَل ) أو ( حكمة ) ينشر اسم القائل ويذيع صيته بل ويحفظ له اسمه بعد موته حتى عند من لا يعرفه .

فملاسي مثلا رجل أمي مغمور فقير لكنه غني بالذكر عند الملأ والسبب مقولته المشهورة ( من رضي ما غبن ) و ( كلا برشده يعيش ) حيث جعلت منه أسطورة تتردد ذكراها بين القبائل وتتداولها الألسن جيلا بعد جيل مترحمة عليه رغم أن أغلب أصحابها لا يعرفونه بل وأكثر من ذلك فقد دفعت بمعجب مثلي إلى البحث عن موروثه الشعري وتدوينه وإظهاره ليس ليزيده شهرة على شهرته فهوغني عن كل ذلك لكنّه تدبير من الله لكي يترحم عليه كثير ممّن يمرعلى ذكراه بعد أن طويت صفحته وانقطع عمله ! فكم هم المحضوضون من أمثاله ياترى ؟!

أعطى محمد ملاسي أو( ابن جهاد ) قدرة فائقة على نظم شعر ( الحكمة ) و ( تخليد الأحداث ) و (نقل صور الماضي وترسيخها ) من دون تقنية أو تدريب أو تعلم أوشهادة فنال من الشهرة ما لم ينله كثير ممن حظي بكل ذلك وحرم من نعمة قرض الشعر أو رسم لوحات بمفرداته خالدة .

الملاسي يقل فكّرت ياهل العقول
ِلنّ من حب نفسه يكرهه صاحبه
ويضللي كما الشيطان ماله رفيق

فمن أوحى لملاسي بمثل هذا ؟ ! أليست هذه مفردات يعرفها كل أحد ؟! لكن هل من الممكن لأي شخص أن يصوغها ويخرجها لنا كهذا الإخراج البديع ؟! إنها حكمة الله بلا أدنى شك أراد أن يظهر بها تميز شخص عن شخص لتتجلى بذلك قدرته جل جلاله فيتوقف عندها الإنسان مشدوها معترفا بعجزه مهما كان مقتدرا .

أنعم الله سبحانه على بعض خلقه بنعم لم يعطها آخرين ومن بينها نعمة ( قرض الشعر ) فكثير ممن لم يعط هذه النعمة ليس بكاره لما يقوله الشعراء أو بعضهم بل قد تجد من بينهم من يحب الشعر ويتلذذ بترديده ويتمنى لوأنّه يستطيع قول بيت واحد يعبر به عما يختلج في نفسه من مشاعر متباينة في كثير من المواقف فكيف به لو أُعطى الملَكة وأظهر ما كَمُن وقبل ذلك وبعده تم تخليد ذكراه بما يقول ….. إذا….. فقرض الشعر نعمة كباقي النعم قد ترفع صاحبها وقد تهوى به في مكان سحيق .

قصيدة وربما بيت من قصيدة ينطوي على ( مَثَل ) أو ( حكمة ) ينشر اسم القائل ويذيع صيته بل ويحفظ له اسمه بعد موته حتى عند من لا يعرفه .

فملاسي مثلا رجل أمي مغمور فقير لكنه غني بالذكر عند الملأ والسبب مقولته المشهورة ( من رضي ما غبن ) و ( كلا برشده يعيش ) حيث جعلت منه أسطورة تتردد ذكراها بين القبائل وتتداولها الألسن جيلا بعد جيل مترحمة عليه رغم أن أغلب أصحابها لا يعرفونه بل وأكثر من ذلك فقد دفعت بمعجب مثلي إلى البحث عن موروثه الشعري وتدوينه وإظهاره ليس ليزيده شهرة على شهرته فهوغني عن كل ذلك لكنّه تدبير من الله لكي يترحم عليه كثير ممّن يمرعلى ذكراه بعد أن طويت صفحته وانقطع عمله ! فكم هم المحضوضون من أمثاله ياترى ؟!

أعطى محمد ملاسي أو( ابن جهاد ) قدرة فائقة على نظم شعر ( الحكمة ) و ( تخليد الأحداث ) و (نقل صور الماضي وترسيخها ) من دون تقنية أو تدريب أو تعلم أوشهادة فنال من الشهرة ما لم ينله كثير ممن حظي بكل ذلك وحرم من نعمة قرض الشعر أو رسم لوحات بمفرداته خالدة .

الملاسي يقل فكّرت ياهل العقول
ِلنّ من حب نفسه يكرهه صاحبه
ويضللي كما الشيطان ماله رفيق

فمن أوحى لملاسي بمثل هذا ؟ ! أليست هذه مفردات يعرفها كل أحد ؟! لكن هل من الممكن لأي شخص أن يصوغها ويخرجها لنا كهذا الإخراج البديع ؟! إنها حكمة الله بلا أدنى شك أراد أن يظهر بها تميز شخص عن شخص لتتجلى بذلك قدرته جل جلاله فيتوقف عندها الإنسان مشدوها معترفا بعجزه مهما كان مقتدرا .

ولد محمد بن أحمد جهاد والمشهور ( بملاسي ) في العام 1333 هـ في قرية العبالة إحدى قرى وادي العلي بمنطقة الباحة ونشأ أمّيا مزارعا يكافح كغيره من أجل لقمة العيش ، وقد كانت الأجواء المحيطة به داخل الوادي أجواء شعراء مرموقين لايقبلون بينهم من لم يكن قادرا على مجاراتهم ( عبد الله الزبير ، سعد بن عبد الرحمن ، علي طويش ، علي دغسان ) وغيرهم من فحول الشعراء ، ولو لم يكن ملاسي من النوابغ لتاهت به الخطى وتعثر في سيره بمحاذاتهم فإما أن تزل قدمه فيهوي إلى القاع وإمّا أن تتسمر في مكانها فلا يتقدم ولا يتأخر , ولم تكن لتشفع له صلة القرابة التي تربطه بابن أخته دغسان لنيل شرف المكانة التي تمتع بها نتيجة لقوة شاعريته فالشرف هنا يكتسب بالجد ومقارعة الأنداد وليس بالمودة في القربى والتستر خلف أقنعة الوهم ومنخال الوقاية من شمس الظهيرة .
شق محمد ملاسي طريقه في الشعر بين أمواج عاتية يقود فيها قاربه بحكمة ومهارة أفضت به في نهاية المطاف إلى الجانب الآخر من ضفة النهر متقلدا وشاح العبور من الدرجة الأولى مع أنه ليس بشاعر (عرضة ) في الغالب وهذا لايعيبه فالمجالسي أكثر صعوبة في بعض الأحيان مما يظنه الآخرون فعلى الرغم من أنّه أقل جمهورا إلا أنّه أعمق نقدا وأوسع رحابة في توضيح عيوب الشاعر وإظهارعدم تمكنه من مجاراة من يبادله مقارعة البيان وخاصة عندما تكون الحلبة التي تجمعه بخصمه تعجّ بعدد من متذوقي الشعر وناقديه كالتي تعودت جمع ملاسي بدغسان وما أكثر ما اجتمع الاثنان في هكذا ظروف .


قبل وفاة محمد ملاسي بشهرين فقط وبالتحديد في 3 /10 /1385هـ حضر حفل زواج الشيخ يحي بن سعيد العفاس من قرية الحلّة وكانت العروس ( أم محمد ) من قرية محضرة وأهالي محضرة شركاء لأهل وادي العلي في وادي يسمى ( فلاحة ) والشراكة لا تخلو في العادة من المشاكل فلما بدأت العرضة استفتح ملاسي المحفل بهذه الحدوّة :

مرحبا بك ياشريكا نحبّه * * * مثل حب المصطفى في عمر
ــــــــــــــــــــــــــــ
عند من يلقى رصاص أم حبّة * * * راس ريعا والمحاجي عمر

فانظروا إلى قدرته الفائقه في الجمع بين النقيضين، وبضدّها تتميز الأشياء !! ( ترحيب وتحذير ) ، ثم انظروا إلى شموخ هامته وعلو همّته , فشموخ هامته يتمثل في حديثه باسم أهالي الوادي رغم أنّه لم يكن مخولا بالحديث عنهم فهناك من هو أحق منه بذلك ، أمّا علو همّته فيظهر من تحذيره الوارد في قوله ( عند من يلقى رصاص أم حبّة ) وقوله ( والمحاجي عمر ) فقد أوصل بذلك رسالة لم يعترض عليها أحد وهي أننا نرحب بكم أيها الشركاء ( ونحن هنا في مقام الترحيب ) أما في مقام الخلاف والتجاوز فليس لكم منا إلا ( المحاجي والرصاص ) .

هكذا هو محمد ملاسي عند من عرفه ،عزيزة عليه نفسه ، شاهقة الارتفاع هِمَّته ، صعبة المنال آماله ، عصية السبر تطلعاته ، بحقه ينطبق قول الشاعر:

إذا غامرت في شرف مروم * * * فلا تقنع بما دون النجوم

وهو ما أتعبه واستنزف جهده فوفّق أحيانا ولم يوفق في أحيان كثيرة ولذا جاءت كلماته معبرة صادقة شأنها شأن كلمات المتنبي التي نبعت من قلب مفعم بالآلام، وكاهل مثقل بالهموم…..فهو المنشد وقد استبطأً تبدل الأحوال وضاق به رحب الأفق……….

متى تفيّق وترضى يا ملاسي متى ؟!
ومتى بعد ينتهي ذا الشر ومتى نطيب ؟
. . . إلى أن يقول :
وعلّتي ما يجي الدكتور بدوايها .

لن أفسد عليكم متعة تذوق مفردات ديوانه بكثرة ثرثرتي فدونكم ما أنتم عنه باحثون :

القصيدة الأولى

يقل محمد ملاسي يارقيب ويا عتيد
جعلكم الله في الدنيا كِراماً كاتبين
بقدرة الله جميع أعمالنا تحصونها
الحسنه يوم نعملها بعشر أمثالها
والسيِّه لا تاب راعيها كِتب غفرانها

……. صدح ملاسي بهذا البدع و تركه فترة من الزمن من غير رد وكأنّه يختبر بذلك قدرة الآخرين على التصدي له والرد عليه فانتشر النّص بين الناس حتى تناهى إلى مسامع رئيس محكمة الباحة آنذاك وهو من متذوقي الشعر النبطي ويدعى ( ابن صقر ) وبالمناسبة فابن صقر هذا لا تربطه صلة بشيخ القبيلة المعروف؛ أقول أعجب به وسأل عن قائله فأخبر باسم الشاعر وقيل له بأنه من مرتادي سوق الخميس بالباحة فكلّف أحد الأخويا بالبحث عنه في السوق وإحضاره إلى المحكمة ، ولما هبط ملاسي إلى السوق محتزماً بجنبيَّته سأل عنه ( الخويّ ) حتى دُلّ عليه ، فسأله هل أنت محمد ملاسي ؟ فاجابه ملاسي : نعم . قال الخوي ، أنت مطلوب لدى رئيس المحكمة ، فبهت محمد ملاسي من هول المفاجأة وانعقد لسانه لكنّه لم يجد مفرّاً من إجابة الطلب ومرافقة الخوي إلى حيث يريد ، وفي الطريق إلى المحكمة بدأ يسائل نفسه . . . ما الذنب الذي اقترفته ياترى ؟! ومن ذا الذي ابتلاني وأوقع بي في هذا الصباح ؟! وكيف استدل عليّ الخوي من بين مرتادي السوق ؟ وما ردّة فعل الحسّاد إذا ما علموا بالأمر؟ ! وهل سأعود إلى أهلي ؟ ومتى ؟ و … و… و … ؟!

وصل صاحبنا إلى المحكمة ففوجئ بعدم طلب أحد منه ترك جنبيَّته خارج المبنى كما جرت به العادة فخفف ذلك من روعه ، ولما أُدخل على الشيخ واستقبله ببشاشة وطلب منه الجلوس هدأت نفسه ، فلما أمر له الشيخ بفنجال من القهوة تهللت أساريره وعندها تمت مساءلته عن القصيدة فذكر أنها له، فأبدى الشيخ إعجابه بها وطلب ردّها منه فأجابه ملاسي قائلا : لم أرد عليها حتى الآن وسأدع لك محاولة الرد عليها طالما انك من متذوقي الشعر يافضيلة الشيخ . . . فما كان من القاضي إلا أن ودّعه ممتنا له حضوره ومعتذرا منه عن التعطيل وعاد ملاسي أدراجه بعدها إلى السوق منتشيا وسط ذهول من شهد عملية استدعائه ومن أرشد إليه الخوي بادئ الأمر .

أشرنا في الحلقة الماضية إلى إعجاب رئيس المحكمة بقصيدة الشاعر محمد ملاسي فماسرّ ذلك ياترى ؟! ولماذا خصها هي بالذّات بإعجابه ؟ وهل كان حجم الإعجاب بالقدر الذي يستدعي جلب الشاعر بتلك الطريقة لمجرد التأكد من أنه هو القائل ؟!
والجواب : أن رئيس المحكمة بالطبع قاضي والقضاة تخصصهم في الأساس علوم شرعيّة بحته وبُنيَةِ القصيدة تناولت أمراًَ شرعياً صِِرفاً فكانت تتحدث عن الملكين المكلّفين بإحصاء أعمال العباد في الحياة الدنيا والذين ورد ذكرهما في قول الله تعالى في سورة ( ق ) ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) وقد خاطب الشاعر مجازاً هذين الملكين خطاب المؤمن الواثق من إيمانه فلم يوجه لهما سؤالا استنكاريا أو استفساريا عن طبيعة عملهما بل أكد على أنهما مسؤولان عن إحصاء أقوال وأفعال العباد في ( الحياة الدنيا ) كما أشارت إليه الآية ثم أتبع ذلك بوصفهما ب( كرام كاتبين ) مستوحيا ذلك من سورة أخرى في القرآن الكريم وهي سورة الانفطار ( وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين ، يعلمون ماتفعلون ) وأضاف شيئا آخر وهو أن ( الحسنة تكتب لصاحبها إذا عملها بعشر أمثالها ) ودليله قول الله تعالى في سورة الأنعام ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) وقول النبي صلى الله عليه وسلّم عند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فيما يرويه عن ربه – عز وجل – قال: ” إن الله – عز وجل – كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ثم هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة “.وأضاف مسلم حدثنا يحيى بن يحيى، ثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا (الحديث) بمعنى حديث عبد الوارث وزاد: ” ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك “. وحديث أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان، ثنا جعفر بن سليمان بهذا الإسناد قال: قال رسول الله : ” إن ربكم رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة، أو يمحوها الله،ولا يهلك على الله إلا هالك ” أ.هـ
أما التائب من الذنب فيقول ملاسي بحقه ( والسيّه لا تاب راعيها كتب غفرانها ) فما هو دليله على ذلك ؟
يقول الله تعالى في سورة الفرقان ( والذين لايدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما (68 ) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( 69 ) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما
( 70 ) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا )فمن علّم ملاسي وهو الرجل الأميّ كل هذا ؟! أليس هذا مثار إعجاب يستدعي مقابلته والتعرّف عليه ؟! لقد كان القاضي محقا فيما فعل ولو كنت مكانه لفعلت ما فعله ولكن الأهم من ذلك معرفة أسباب هذا البدع الغريب العجيب وهل يحمل في طياته توريةَ لأمر ما والمعنى الحقيقي في بطن الشاعر كما يقول المثل المعروف ؟!

لقد كان بيت محمد ملاسي يحوي فناءً أمامه ليس له سورٌ يحميه ( لقلة ذات اليد ) وكان القادمون من خارج القرية لطحن حبوبهم لدى صاحب البابور الوحيد في الوادي العمّ صالح بن فرحة -رحمه الله- يربطون حميرهم في فناء منزل محمد ملاسي ظنا منهم بأن ذلك لايؤذيه فعمد في إحدى المرات لفكّ رباط بهائم أشخاص أتوا من قرية العطاردة وهي بالمناسبة ليست من قرى الوادي فعادت البهائم من حيث أتت دون علم أصحابها ومع أن ملاسي مشهور بالحكمة فقد جانبته الحكمة هذه المرّة وليس محقا فيما فعل مهما كان عذره خصوصا وأن أصحاب البهائم من قرية أجنبية لهم ولبهائمهم حق الحماية كما تقضي به الأعراف القبليّة المتداولة آنذاك، فاشتكى أصحاب البهائم ملاسي لعريفة القرية وموامين الجماعة فأصدروا حكما تعزيرياً يقضي بأن يدفع المعني أربعين ريالا لصندوق الجماعة مع أن العامل وقتئذٍ يتقاضى ريالين ونصف الريال عن كل يوم عمل يمتد من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها لكن هذه هي الأحكام القبليّة التي في حال صدرت أصبحت قطعية واجبة النّفاذ وليس هناك مجال لاستئنافها .

شَعُرَ محمد ملاسي بأن الحكم مجحف بحقه ومع ذلك لم يكن له مفرٌ من تنفيذه فأنشأ هذا البدع الذي هرب فيه من مخاطبة بني البشر وخاطب الملائكة على سبيل التورية وكأني به يقول ( يا أبناء جنسي انظروا إلى الملائكة يحصون الحسنات والسيئات فما بالكم أنتم لاتحصون إلا السيئات فقط ؟! ثم إن الحسنة عند الملائكة ومن أرسل الملائكة بعشر أمثالها والسيئة لا تكتب إلا واحدة وفي حال أقلع صاحبها وتاب كتب له الغفران فلماذا أنتم تتناسون حسنات المخطئ ولا تغفرون ذنبه وتتجاوزون عنه طالما اعترف وأقلع عن زَلّته ) .

هكذا كان محمد ملاسي شديد البأس قوي الشكيمة عزيز النفس لا يقبل الخنوع والاستجداء رغم فقره وقلة حيلته فقد دفع الأربعين ريالا وخاطب الملائكة مستعيضا بهم عن بني جنسه .

أما الرد على القصيدة فلم ينبر له أحد من شعراء الوادي المتواجدين على قيد الحياة في ذلك الحين وخاصة دغسان ( عريفة القرية ) فلديه من الفطنة ما يجعله ينأى بنفسه عن جدل لاخاسر فيه ولا منتصر لكنّه مع ذلك بقي يراقب الموقف عن بعد ويترقّب رد ملاسي فلما استبطأ الرد بعث له برسالة شفهية بطريقة غير مباشرة على لسان شقيقي ( علي ) والذي كان وقتها يعمل مع مجموعة من شباب القرية لدى محمد ملاسي في قطع ( ربض ) لجدار الفناء الذي قرر الشاعر بناءه بعد جرح الأربعين حيث امتنع الأخ (علي ) عن مزاولة عمله في صبيحة يوم من أيام العمل قارس البرد شديد القرّ كوسيلة ضغط على ملاسي حتى يرد على القصيدة فقال له ملاسي وهم متحلّقين من شدة البرد حول ( الصلل ) قبل طلوع الشمس ( لا لا وأنا عمك أنا أعرف ذا يحرّشونك لا توقف شغلك، هات ورقة وقلم واكتب الرد ).

الردّ

القلب لا عاد يعيا علم طيب ياعت ايد
وان كان قدّامعيني ما انكر الأنكات بين كم واحداً ولّع الفتنه ومات حصونها
من حكمته جنّب الصاحب وعشرم ثالها والبرّ موجود ما حد قال من غفرانهى

معاني الكلمات :
1) يعيا ـ يفقه أو يدرك
2) قدّام ـ أمام
3) الأنكات ـ من التنّكيت أي غير الجآدّ
4) ولّع ـ أشعل
5) حصونها ـ لهبَها
6) جنّب ـ أبعد
7) عشرم ـ الأشرم مقطوع الشّفه
8) ثالها ـ نَشَرَها
9) غُفرا ـ إسم مكان مشهور بإنتاج البُرّ
10) نَهى ـ إنتهى

الشّرح :
لم يخرج الشاعر حتى في رده على القصيدة عن موضوع العقوبة التي صدرت بحقه وذاك يشير إلى أمرين :
أ ) مرارة المعاناة التي تجرّعها جرّاء العقوبة الصادرة بحقه وعدم قدرته على تناسيها رغم الوقت الطويل الذي أشرنا إلى أنه مرّ بين بدعه القصيدة ورده عليها .
ب) قمّة الإبداع الشعري لدى الشاعر وقدرته على تطويع المفردات واستخدامها للطرق على الموضوع ذاته مرتين ( في البدع والرد ) وذلك من غير تكرار ممل فماذا يقول …..؟
يقول على سبيل الإخبَار عن القلب أنه إذا وعى أمرا ما فإن اليَدَ تابعة له تعي ما يعي وتُنفِّذ ما يأمر به
( إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر ) وهذه دِقّة في التعبير أشار من خلالها إلى علاقة القلب بأعمال الجوارح وهو مايوافق قول الله تعالى ( لهم قلوب لايفقهون بها ) فالقلب ليس مضخة للدم فقط كما يشير إلى ذلك كثير من الأطباء بل إن له سُلطة على أعمال الجوارح وهناك العديد من الأدلّة ليس هنا مكان إيرادها .

نعود إلى مقصد الشاعر الذي ورّا ( من التورية ) فيه عن السلطة القضائية التي أصدرت الحكم عليه ( بالقلب ) وعن السلطة التنفيذية ( باليد ) فقال ـ القلب لاعاد يعيا علم طيِّب ياعت ايد ـ وجاء بكلمة ( طيِّب ) ولم يأت بغيرها،مع أن في وسعه أن يقول( صاحي ، صادق ، واكد ، جيّد …. الخ ) لكنّه قصد الكلمة بعينها …. لو كنتم طيبين ونويتم الطيب لم يأت حكمكم عليّ بهذه القسوة، أما في البيت الثاني ( وإن كان قدام عيني ما انكر الأنكات بين ) يقول وقع الجدل والنقاش على مرأى ومسمع مني وأنا القادرعلى تمييزالهزل من الجِدّ والصدق من الكذب ومن كان منكم معي ومن كان ضدي فكل ذلك واضح بيِّن .
في البيت الثالث صرّح بأن فيهم من يشعل نار الفتنة وهو القادر إذا نوى أن يطفئ لهبها الذي شبَّه علوه وارتفاعه بارتفاع الحصون ( جمع حصن ) وعلى سبيل التهكم يقول في البيت الرابع أن من حكمة مشعل نار الفتنة تجاهل الصاحب وعدم الوقوف إلى جانبه حتى أصبحت تلوكه الألسن ومنها لسان الأشرم الذي لا يُفهم كلامه، وعلى الرغم من كل حجم التشاؤم لدى الشاعر وعدم ثقته فيمن حوله كما هو واضح من سياق القصيدة إلا أنه ختمها ببيت فيه من التفاؤل الشئ الكثير حيث أشار إلى أنه لم يفقد الأمل وأن الخير لم ينقطع فقال ( والبر موجود ما حد قال من غفرا نهى )


 
 توقيع : صقر الجنوب

مواضيع : صقر الجنوب



رد مع اقتباس