عرض مشاركة واحدة
قديم 11/01/2020, 03:13 AM   #32
المؤسس والمشـــرف العــــام


الصورة الرمزية صقر الجنوب
صقر الجنوب ٌهé÷àٌ يà ôîًَىه

افتراضي




{ الحج وملاسي }

كان العمل لدى المطوفين في موسم الحج أو مايسمّى ( بالطلعة ) أحد أهم مصادر الدخل السنوي عند شريحة عريضة من مواطني المملكة ومن بينهم أبناء الجنوب وخاصة ( الغمّد ) الذين برعوا في هذا المجال حتى أصبح عددا منهم من أبرز المطلوبين لدى أشهر المطوفين في مكة كالفطاني والبشناق وغيرهما وماذاك إلا نتيجة لامانتهم وجلدهم وتفانيهم في أداء ماهو موكل إليهم من خدمة الحجاج والسهر على راحتهم والحفاظ على اموالهم واعراضهم وقد كان شاعرنا أحد أولئك العاملين في تلك المواسم طوال حياته بما في ذلك العام الذي توفي فيه فقد ثبت من رواية إبنه أحمد أنه وجد في ( كمره ) بعد وفاته مائتي ريال هي كامل مستحقاته عن ذلك الموسم الذي لم يكمله رحمه الله نتيجة للوعكة الصحية التي المت به في المشاعر وتوفي على اثرها قبل أن ينتهي من مهمته .

وفي موسمين من تلك المواسم خلّد الشاعر تجربة مشاركته فيهما شعرا تداولته الألسن وحفظته الأجيال فكان دليلا على قوة شاعريته واسلوبه الفذ في تصوير الأحداث ونقلها بأدق تفاصيلها لمن لم يشهدها وفي كلمات معدودات لو كتبت نثرا لم يف بجزئياتها عشرات الصفحات ومئات الكلمات فانظروا ماذا يقول :

في حج عام 1369 هـ ونتيجة لقلة الوعي وضعف الوازع الديني لدى بعض الاشخاص الذين اُبتلي بهم ذلك الموسم فقد اصطحب عدد منهم وخصوصا الأثرياء من المطوفين العاملين على خدمة الحجاج وكنوع من الترفيه عن النفس في اوقات الفراغ آلآت تسمى باللغة الأنجليزية ( بي كام ) واشتهرت لدى العامة ( بالبكم ) اختصارا وهي صناديق خشبية تحوي الآت تعمل على تشغيل أشرطة أغاني دائرية الشكل شبيهة بالسيدهات الحالية إلا أنها أكبر حجما ويعلو الجهاز أو الصندوق الذي يلف تلك الألآت مكبر صوت تنطلق منه المادة المسجلة على تلك الاصطوانات بصوت مرتفع ، وفي مشعرعرفات كان الله لأولئك بالمرصاد فهبت قبل إنتهاء اليوم ريح شديدة إقتلعت الخيام وبعثرت الحاجيات وشتت الجموع اعقبها في لحظات معدودات مطر قوي مصحوب باصوات رعد مخيف وبَرَدٌ لم يشهد الناس له مثيلا في تلك الحقبة فكان الجزاء فوريا ومن جنس العمل فماذا يقول الشاعر في وصف تلك النازلة :

البدع

ياتاجر التهم يبغى لك في الحجره عود
راعي المواتر كسب لاتاع منها بِرَد
الى سلم هرجة النمام والراديو
والمنعوج يعرفه قلبي وقرّ نعرفه

(1) تاجر التهم : نسبة إلى تهامة
(2) الحجر : المقصود – سوق الحجرة – والحجرة قرية في تهامة زهران لها سوق معروف مسمى باسمها
(3) عود : أي خيمة تنصب لممارسة التجارة
وقد يكون المقصد عودة إلى السوق ( اي رجعة إليه ) أو عود بمعنى جمل محمّل بالبضائع والمعنى في بطن الشاعر
(4) المواتر : السيارات المعدة لنقل البضائع
(5) تاع : كلمة تهامية بمعنى جاء – يقول شاعر تهامة في قصيدته المشهورة التي القاها بمناسبة قيام أهالي وادي العلي باعادة ابلهم المسروقة ( ابلنا تعتم بها لكن نبغي منكم البيان ) واستخدام الكلمة هنا ينم عن سعة اطلاع الشاعر والمامه بلهجات المناطق الأخرى وحسن انتاقائه للالفاظ إذ أنه من المناسب طالما أن المخاطب تاجرتهامي أن يأتي له بمفردة تهامية بحته .
(6) برد : يقصد حملة السيارة لمرة واحدة
(7) الى سلم : إذا تفادى ، هرجة : كلام
(8) النمام والراديو : النمام معروف والراديو يقصد به الانسان الرّدي الذي لاخير فيه .

وفي بيت واحد هو البيت الأخير لخّص الشاعر تجربة مخالطته للناس طوال حياته كلها ومعرفته باحوالهم – برّهم وفاجرهم غثهم وسمينهم صديقهم وعدوهم – حيث يقول – المنعوج يعرفه قلبي وقرّ نعرفه – أي انني اعرف الأعوج والسّويّ وهو ماعبر عنه بكلمة عامّية من لهجتنا المحليّة المتداولة وهي ( القارّ ) لتتفق مع ماخطط له في الرد عندما أتى بمفردة ( قرن عرفه ) كناية عن جبل الرحمة في مشعر عرفات ، وهذا البيت لاتقلّ قيمته الفنّية في نظري عن البيتين الذين اُشتهربهما الشاعر وهما ( يقل محمد ملاسي من رضي ماغبن – لاتعذلون العرب كلا برشده يعيش ) حيث اطلق عليه بعدهما شاعر الحكمة وهو للحق كذلك في كل اقواله التي وصلت إلينا.

الرد

يقل محمد ملاسي جا في الحج رعود
وجا نشايا من المولى وفيها برد
هذا جزا راعي الصندوق والراديو
لو مارحمنا هِلِكنا عند قرن (ا) عرفه

(1) نشايا : سُحُب ممطرة – يقول المولى عزّ وجلّ ( وينشئ السحاب الثقال )
(2) راعي الصندوق : صاحب البيكام
(3) قرن عرفة : كناية عند العوام عن جبل الرحمة .

هذا ما خلدّه الشاعر في ابيات اربعة لاخامس لها تجسد ما قد يحتاجه اديب في عدة فصول لتصل فكرته إليك أيها المتلقي فقل اللهم ارحم ملاسي واعف عنه فإنه يستحق منا الدعاء نظير ماقدّمه .( اللهم ارحم محمد ملاسي واعف عنه ، اللهم اكرم نزله ووسع مدخله وعافه واعف عنه ، اللهم وكما خلّدت ذكراه بيننا فخلّد جسمه واسمه في جناتك جنات الخلد يارب العالمين )

في الحلقة القادمة نكمل بحول الله تجربة الشاعر الثانية مع مواسم الحج والتي خلدها باشعار تفوح منها رائحة الصبر وطول المعاناة فالى أن نلتقي نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله .

ومع شاعرنا الفذ محمد ملاسي ومواسم الحج نتواصل فنقول :

سافر ملاسي ذات مرة إلى مكة للبحث عن عمل في موسم الحج ، والعمل في الموسم آنذاك يعد مصدر رزق هام لأغلب أبناء المنطقة الجنوبية من الطائف إلى نجران لأن معظمهم مزارعون أٌمّيون ليس لهم وظائف ولا مصدر رزق خلاف المزارع التي قد تجود بقدرة الله في بعض الأعوام وفي أغلبها لاتجود وكان الرجل اذا وجد عملا أو مايسمى ( بالطّلعة ) خلال الموسم يعتبر محظوظا لكثرة العرض وقلة الطلب ، وعندما نقول (سافر فلان ) فإننا نعني أنه تكبد من المشاق ماالله به عليم فقد ودّع أهله وأبناءه وأحبابه واتجه نحو المجهول فليس هناك وسائل اتصال يستطيع المسافر بواسطتها الإطمئنان على أهله غير الرسائل التي تحمل يدويا مع المسافرين من أبناء القبيلة ، والسفر في حدّ ذاته يعتبر قطعة من العذاب وخصوصا في تلك الأزمنة التي كانت المسافة من الباحة إلي مكة تستغرق سبعة أيام بلياليها ومثلها في العودة مشيا على الأقدام .

المهم عمل ملاسي لدى مطوف يدعى ( الحويت ) وكان معه أحد أبناء الوادي من قرية المردد وهو المرحوم ( سعيد الدميني ) جد الأخ الفاضل والزميل العزيز ( أحمد حامد الدميني ـ مدير عام التأمينات الإجتماعية بمنطقة مكة المكرمة حاليا ) ، والعمل لدى المطوف لايقل عما لاقاه المسافر من الباحة إلى مكة من مشقة فمطلوب منه العمل ( كصبي ) لمدة لاتقل عن شهر { يطبخ للحجاج طعامهم ( في حرّ مكة الشديد ) ويحمله إلي مقر سكناهم ويتولى توزيعه بينهم ويجلب لهم الماء للشرب والوضوء والإستحمام فليس هناك مايعرف حاليا ( بالوايتات ) ثم يشارك في حمل ونقل الخيام من مكة إلى المشاعر في منى وعرفات ونصبها هناك وإعادتها بعد المناسك إلى المستودعات ، فضلا عن نقل ما تحتاجه تلك المخيمات وأهلها من مستلزمات بدءا بالطعام والماء والكساء وانتهاء بالحراسة والبحث عن المفقودين من الحجاج ومعالجة المريض منهم ومساعدة العاجز وما إلى ذلك }.

خلاصة القول أن ملاسي كٌلّفَ إلى جانب ماهو موكل إليه باستلام الخيام التي تم جردها ( عذّها ) عليه في بداية المشوار وعليه أن يسلّمها كاملة في نهاية الموسم والا فقد بذلك إستحقاقه عن ( الطّلعة ) برمتها ، وهل تدرون كم كان إستحقاقه عن كامل الموسم ؟ إنه في أحسن الأحوال لايزيد عن مائتي ريال !!!!! ( رحم الله آباءنا وأجدادنا كم عانوا من المشقة والإذلال ).

إنتهى الموسم وعند عدّ الخيام اتضح أن إحداها لم تكن موجودة وربما أخذت من قبل أحد المطوفين المجاورين في الموقع عن طريق الخطاء أو أن شخصا ما من اللصوص ( وما أكثرهم في تلك المواقع ) استولى عليها دون علم ملاسي ورفاقه ؟ المهم أنها فقدت ، وبناء عليه لم يعط المطوف لملاسي أجرته ! ومع أن المصاب جلل والخطب فادح إلا أن شاعرنا لم يكن أشد إكتراثا بالذي حدث له مما سيناله من شماتة رفيق دربه ( دغسان ) الذي لو علم بالامر لم يدع له ( أي لملاسي ) جنبا يتكئ عليه ولهذا كانت ردة فعله الفورية صرخة مدويّة في المكان مضمونها ( دغسان لايدري ) ! لكن هيهات !! فدغسان يتصيد مواقع إيلام ملاسي ويأيته بالأخبار من لم يزود !

فماذا ياترى قال دغسان ليرغم ملاسي على تدوين تجربته المريرة تلك بنفسه لتكون شاهدا على قسوة الإنسان على أخيه الإنسان ؟!يقول رحمه الله :

نزّالة الأحسبة عالخطر والموسم
تسمع لهم ياملاسي فالجوا دلجن
درب القوافل تحصلهم حوي توّه
والشيخ ساعد يقولون ضاع تلخيمه

ولشرح البدع ليتفهمه القرّاء الكرام نقول :

كانت قوافل الحجاج قبل الحكم السعودي تتعرض للسلب والنهب وكان اللصوص يعترضون طرقها زرافات ووحدانا بل إن الحال وصل بهم ( أي باللصوص وقطاع الطرق ) إلى أن بعضهم يعرف منطقة البعض الآخر فلا يجرؤ على الإقتراب منها ومن تلك الأمكنة وادي يسمى وادى الأحسبة في تهامة حيث يتم اقتناص الحجاج القادمين من القرى الجنوبية للمملكة ومن اليمن فيه ، وكان الموقع يهيمن عليه مجموعة من الأفراد تحت إمرة رجل يقال له ( ساعد ) ولأجل أن يخلد دغسان ذكرى ملاسي هذه عبر التاريخ كان لابد له أن يأتي بمفردات تتناول الحدث مباشرة ( كالموسم ، والحويت وهو { إسم المطوف } وضاعت الخيمة )

فيقول في بدعه ـ نزّالة الاحسبة ـ أي النازلين والمتمركزين فيه من اللصوص وقطاع الطريق ، عالخطر والموسم ـ أي مقيمين على الأخطار منهم وعليهم ، والموسم يريد به ( التوسيم ) وهي لفظة ديروية بحته ترمي إلى مايحصل عليه شخص من آخر بدون رضاه ـ فيقال فلان وسّم في فلان أي كسب منه أموالا طائلة بغير وجه حق .

تسمع لهم ياملاسي فالجوا دلجن ، أي أن ضجيجهم علا وارتفع في الجو فاصبح مسموعا ـ وبلهجتنا المحليّة لهم إدّلاجة

درب القوافل تحصلهم حويّ ـ توّه / أي أخذوا أماكنهم السريّة وتمركزوا مقابل وعلى طول الطريق الذي تسلكه القوافل ، وشيخهم المدعو ساعد يقال بأن ماجمعه قد ضاع ، واللخم كلمة حضرمية تطلق في الأصل على اللحم الذي يجمعه الحجاج من بقايا الأضاحي ويقومون بتجفيفه ( في ظل عدم وجود البرادات ) حتى لايتعرض للتلف ليمكن اصطحابه معهم إلى بلدانهم فكنّى دغسان به هنا عن الغنائم التي حصل عليها شيخ اللصوص المدعو / ساعد من ضحاياه ضيوف بيت الله الحرام وكأنه يقول يذهب الحرام من حيث أتى .

وقد كان رد ملاسي رحمه الله على النحو التالي :

سافرت من بيتنا باحاضي الموسم
وزدت جاودت لاوانه جواد الجن
واش قرّبك ياملاسي ما الحويت أوّه ؟
لا قلت حاسب يقللي ضاعت الخيمة

باحاضي ـ أي بأشهد الموسم ، اما أوّه ـ فهي لفظة تقال للتحسّر

بمناسبة إنتهاء مناسك الحج في احد الأعوام السابقه التي عاش فيها الشاعر محمد ملاسي قال هذه
القصيده بدعاً ورداً منه رحمه الله

البدع

ناس عنه زال كثر الهم والشيب راح

ولا يطاوع هروج الزود والحجفــات

يرضى ويفرح وبعد الزفر ونحن بعــد

والدخن إذا جا المخايل بلدك ياغريب

الرد

يقل ملاسي معي في المدّعى شيبراح

وكل واحد قضى المطلوب والحج فــات

جمع الحجوج افلحوا من مكه ونحن بعد

ولا اسمع إلا المنادي بلدك ياغــريـــب

رحم الله ملاسي ودغسان وجمعنا بهما وجميع موتانا وموتى المسلمين في جنات النعيم .

(علّة ملاسي تستعصي على الحكماء)

كان دغسان رحمه الله من اشد الناس التصاقا بالشاعر محمد ملاسي ومن أقربهم الي نفسه، ولأنه شاعر مثله فانه ليس بمستغرب أن يكون هو الأعرف به و بمعاناته وما تنطوي عليه سريرته وإن لم يكن ذلك على سبيل الاطلاق الا انك تجده جليا في العديد من النصوص الشعرية التي اتحف بها الشاعران متذوقي هذا الفن من ابناء المنطقة الجنوبية،

وفي المقطوعة التالية ومايليها تتجلى هذه الفرضية بمالا يدع مجالا للشك، بل وتؤكد على أن دغسان رحمه الله هو الأجدر باستظهار ماكان محمد ملاسي رحمه الله يحاول اخفاءه وكتمانه من معاناة نفسية وربما جسدية ايضا حتى عن اقرب الناس اليه وماتلك المعاناة الا نتاج طبيعي لما افرزته تقلبات الدهر وظروف الحياة القاسية التي عاشها ( اعني ملاسي ) لكن ولأنه وهو المشهود له بالعصامية والقدرة على التحمل لم يشأ البوح بما يختلج في نفسه ويعبرعما بداخله من مشاعر شعرا كان أو نثرا درءا لشماتة الشامتين وكلام المغرضين فآثر الصمت وكأني به ولسان حاله يقول ( صبري على نفسي ولا صبر الناس عليّ )

الا أن فراسة دغسان وقدرته على قراءة تنهدات ملاسي وملامح آهاته التي كانت تخفى على كثير ممن حوله لم تكن بمنأى عن تخطيط دغسان المغلف بالدهاء والمكر الحسن إن شئت كي يقوم ( أي ملاسي ) باخراجها على الملأ دون تهرب أو سعي للي اعناق النصوص ،

ولك أخي المتصفح أن تتمعن في هذا الطرح الذي استنطق بموجبه دغسان رفيق دربه ليضع معاناته أو ( ينشر غسيله ) باللهجة الدارجة أمام الآخرين بكل شفافية ووضوح لترى مدى مايتمتع به كل من الشاعرين من ذائقة شعرية اقل ما يقال عنها أنها ( مبهرة)

البدع ( من دغسان )

والله اني آحب ذا بين الملا سيمتا
وآحب ذا يشتري ما العود وامتان طيب
لكن ربي ينقّض كل فتلا حكيم
اسمع كلامي ولا تقعد تعلّه عليل
والهجرة اصبر لفتنتها وبدوايها

فالهيئة الحسنة للإنسان تعبير عملي عن ذوق رفيع وإحساس بالجمال، وحُسْن مظهر الشخص الخارجي يتضح من طريقة حديثه وصمته وحركتة وسكونه ودخوله وخروجه وسيرته العملية في الناس بحيث يستطيع من يراه أو يسمعه أن ينسبه لأهل الخير والصلاح والديانة والفلاح .
وإنسان هذا نعته لاشك أنه مقبول محبوب قريب من الناس فالعين حين تقع على حَسَنِ الهيئة والهندام ترتاح لرؤياه وتنعم للقياه , لأن الشئ الحسن مُبهج , مرغوبٌ فيه ،
عن عبد الله بن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : إن الهَدْيَ الصالح والسمتَ الصالح والاقتصاد جُزءٌ من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوة )) رواه أبو داود

ولقد عبردغسان وهو المربي الفاضل والقدوة الحسنه عن اعجابه بالرجل المتصف بالسمت واقسم على ذلك فقال ( والله اني آحب ذا بين الملا سيمتا ) ولأن الرائحة الزكية جزء من المظهر الحسن بل قد تكون عنوانا له فإن الشاعر لم يغفلها هنا بل صرح بها ولم يلمح لكنه استدرك فاشار بعدها مباشرة الى أن لكل قاعدة شواذ فقال ( لكن ربي ينقّض كل فتلا حكيم ) فلا يغرنّك مظهر شخص ما فتحكم عليه من خلال مظهره حكما قطعيا ازليا فإن الله قادرعلى أن يفضح سريرة ذلك الذي اعجبت به فيتضح لك عكس ماكنت تعتقده ( ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا ) ولذا فقد اكّد على نصيحته تلك بقوله ( اسمع كلامي ) وانتفع به ( ولا تقعد تعلّه ) أي تردده دون الاستفادة منه ( عليل ) مفعول مطلق من ( تعلّ ) ثم ختم رائعته هذه بجملة هي بمثابة القاعدة التي يجب أن يراعيها المرء في كل مراحل حياته وهي الصبر على ما تبديه له الدنيا وما تخفيه من اقدار وفتن فقال ( والهجرة اصبر لفتنتها وبدوايها ) .

اما الرد فقد جاء من ملاسي كما اراده دغسان واضحا جليا لا لبس فيه فقال :

متى تفيق وترضى ياملاسي متى
ومتى بعد ينتهي ذا الشر ومتى نطيب
لو كان من ديرة امريكه يجينا الحكيم
إنه ليقفي وانا تحت الصخونة عليل
وعلتي ما يجي الدكتور بدوايها

ولاحظ هنا أن امريكا منذ ذلك الوقت تتبوأ قمة التقدم في جميع المجالات ومنها الطب لكن على الرغم من ذلك فقد اعيت ( علة ملاسي ) اطبائها وحكمائها فمات بها رحمه الله دون علاج وصدق الله القائل ( فلولا إن كنتم غير مدينين ، ترجعونها إن كنتم صادقين ) رحم الله ملاسي ودغسان وموتانا وموتى المسلمين وجمعنا بهم في جنات النعيم .

فن الطرح للإفصاح عن الم القرح
تجرأت ذات مرة وهي بالمناسبة ( من المرات النادرة ) وسألت الوالد علي دغسان عليه رحمه الله عن ما كان يرمز إليه من معنى في إحدى قصائده التي اشتهرت بين الناس فرمقني بنظرة لم يكن يخفى عليّ ما ورائها وقال ( ياولدي ، انحن نقول القصيدة والناس ياهبون لها معاني ! ) أ .هـ
أردت من هذه المقدمة إيضاح حقيقة أن لكل قصيدة مناسبة قد تخفى على الكثيرين ويبقى معناها كما قيل ( في بطن الشاعر ) وقد تتضح لقلة آخرين آثروا الصمت فتركوا بذلك باب الاجتهاد حول مرادها مفتوحا على مصراعيه فخاض حوله الخائضون ومن هنا فإن تحليلي أو تحليل أيّ مجتهد آخر لأي ّمنها ربما جانبه الصواب لكن بقي لنا منها متنفسا هو قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) .
ذكرت فيما مضى أن ملاسي عليه رحمة الله كان ذا همة عالية وطموحا اكبر بكثير من قدراته ( الاقتصادية والمعيشية ) المتاحة آنذاك وهو كغيره تواقا للجمال بجميع أشكاله وتعدد نحله واختلاف ملله ( في المأكل والمشرب ، وفي الملبس والمركب، وفي الزوج والسكن وحتى في قيد الدابة والرّسن ) كيف لا وهو المنتمى لمن قرر منشؤهم والمطلع على حقائق نفوسهم تلك الحقيقة فيهم بقوله ( زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ) بل إنه سبحانه فوق ذلك جميل يحب الجمال !
إذن فلم يكن ملاسي بدعا من الخلق بل مثلهم يتوق لما يتوقون إليه ويشتاق لما يشتاقون له ويتطلع لما يتطلعون إليه ولو أوتى أحدهم واديا من ذهب لتمنى الآخر ! وتلك لعمري طباع النفوس البشرية قاطبة فلم الاستغراب ؟ّ!
كان ملاسي ودغسان كما سبق التطرق إليه قريبين لبعضهما البعض في السن والسكن والنسب ويربطهما إلى جانب ذلك رابط أقوى هو الشعر ولذا كانا لبعضهما كتابين مفتوحين لايكاد يخفى منهما خافية وفي أكثر من مناسبة شعرية حاول كل منهما استدراج الآخر ليظهر ما كان يخفيه في نفسه ويبديه للناس وماهذه إلا احداها :
يقول دغسان في طرحه
أنا معي قارعة باقولها وغـلاق مـاش
لكن فيها المسرة يوم تبدي والثيـاب ( الثياب: النفع تقول ترجو ثابته ـ أي نفعه )
مثيل طلع النخل في مغرسه يابـا بكـور
كلام طيب وعند العارفـه تكسـيمنـه )مكسّم ـ أي مرتب )

الـــرد : مـحـمــد مــلاســي
يقل ملاسي بغينا نكتسي ما اغلى قمـاش
لجل اني احب تنظيف العمايـم والثيـاب
وطحت في بز خاسر في مغالق بابكـور
احذر يصيدك ويادغسان لاتكسـي منـه

يبقى المعنى مدفونا مع ملاسي ودغسان حيث دفنا ويبقى لهما منا الدعاء بالرحمة والمغفرة ما ذكرا ، القاكم بخير .


 
 توقيع : صقر الجنوب

مواضيع : صقر الجنوب



رد مع اقتباس